الإلحاد والمعنى Atheism and Meaning
من المتعارف عليه أن المعتقدات الدينية تعطي الوجود الإنساني سبباً للتفكير في أن حياة كل منهم قد خلقت لغاية، وأن وجود الإنسانية كذلك لغاية. وعلى العكس فإن الإلحاد يخبرنا عموماً بأن حياة كل إنسان (وبالتالي) البشرية جميعاً ليس لها غاية في الكون، وأنهم سيفنون حتما مع مرور الوقت (يكون فناء البشر بانتهاء حياتهم القصيرة على الأرض وفناء الإنسانية عندما تصبح الأرض غير مأهولة بالسكان -على الأقل-). وفي ضوء هذه الاحتمالية المحزنة جداً فإن قضية معنى أو غاية الحياة في الإلحاد شكلت تحدياً صعباً جداً للملحدين منذ بداية الإلحاد الحديث في القرن السابع عشر.
لم يتوانى المؤمنون بالأديان عن نشر فكرة أن الإلحاد يؤدي إلى اليأس، خاصة أنه سلب الناس أملهم في أن المظلوم سينال جزاءه في الآخرة، وأحبط فكرة العيش للأبد التي تبدو لهم رغبة طبيعية، كما أحبط الأمل في أن أساس الحقيقة/الواقع جيد أكثر من كونه سيء أو محايد فيما يتعلق بهم، وسلبهم أيضاً كل محفز للعمل في هذه الحياة.
وحتى إن كانت هذه الاعتراضات التي رد عليها الملحدون رداً (عقلانياً نوعاً ما) صحيحة فإن هذه العواقب المؤسفة لن تدحض الإلحاد. ومع ذلك اختلف الملاحدة اختلافاً كبيراً في إجابة: هل هو صحيح فعلاً أن هذه العواقب تحدث كما يعتقد المعارضون الدينيون؟.
اتخذ بعض الملاحدة موقفاً متفائلاً نسبياً بشأن غاية معتقدات الملحدين ومعانيها. فعلى سبيل المثال، ذكر لاميتري La Mettrie, أحد ملاحدة القرن الثامن عشر أن الخوف من الموت ليس إلا نتيجة للاعتقاد الديني بالعقاب بعد الموت، وادعى بأن نقض هذه الفكرة نقضاً كلياً سيحرر البشر من القلق المبالغ فيه من الموت.[1] وقد تبنى كثير من الملاحدة أيضا الحجة (التي هي في أساسها أبيقورية Epicurean) القائلة بأنه ليس للموت أي معنى للبشر لأنه لا يمكنهم تجربته –حسب ما ذُكر في التعريف-. وأكد دي هولباخ D'Holbach أنه نظراً لهذه الأسباب يجب ألا يشكل الموت أي قلق.[2]
وهناك مدافعون معاصرون كثر عن هذا الموقف. وقد يشارك مثلاً الفيلسوف الملحد مايكل مارتن Michael Martin في هذا التفاؤل النسبي حيث ذكر بأن البشر يرون أن كل فعل يقومون به ذو معنى في ذاته بغض النظر عن كون حياتهم كلها ذات معنى أو لا (وهذا بالطبع ينكره الملاحدة). والدليل المشابه الذي ينص على أن كل الإنجازات البشرية ستفنى بفناء الكون -وهو أمر محتمل جداً وفقاً للتوقعات الفيزيائية الحديثة- لا يقلل من معنى الإنجازات الثقافية لنا الآن، فهي ذات معنى ما بقينا على وجه هذه الحياة. والدليل على هذا حقيقة وجود ملاحدة سعداء وراضون كما يقول مارتن. ورؤية الأشياء بتجرد أو ما يسميها مارتن بالرؤية "بعين الله" والتي تنص على أن مجمل النشاط البشري ليس ذا معنى هي رؤية من منظور واحد للأشياء من حولنا، ولكن البشر غير ملزمين بهذه الرؤية وترك الرؤية العادية (ذات المعنى) وبالتالي يجب أن لا ييأسوا.[3]
ومع ذلك فربما من الإنصاف القول بأن عموم المفكرين الملاحدة اعترفوا بأنه يصعب تجاهل الخوف من الفناء. فقد أقر كلود أدريان هيلفيتوس Claude-Adrien Helvetius 1715-1771 ودينيس ديدرو Denis Diderot 1713-1784 بأن نتائج الإلحاد المتسق كئيبة، وأنهما يطلبان الراحة في طرق بديلة للبقاء على قيد الحياة مثل بقاء الأنواع. وأكد ديدرو على سبيل المثال بأن الكائن الحي يفنى ولكن نوعه لا ينتهي.[4]
ويمكن القول بأن "الإلحاد العلمي" الماركسي والنظرية الداروينية الاجتماعية والإنسانية العلمانية الإصلاحية التي يتبناها الداوكنزيون Dawkinsian (يشير الكاتب هنا إلى أتباع الملحد التطوري ريتشارد دوكينز Richard Dawkins في تصديق كلامه عن الجين الأناني) تعد أشكالاً للإلحاد الذي يطرح مشكلة "اللا معنى" عن طريق تطوير الإيمان بالطرق البديلة للبقاء. وهذا يعني أنه في الحالتين الأوليين سيتحقق بقاء الأنواع وتقدمها بطرائق مختلفة، أما في الحالة الأخيرة سيتحقق التطوير الدائم لوضع البشر عن طريق إضعاف تأثير الأديان.
ولكن اعتبر كثير من الملحدين -خاصة أولئك المعنيين بنتائج الاعتقاد الالحادي على الأفراد المخالفين للمجتمعات- بأن المطالبة ببدائل البقاء شكلاً من أشكال خداع الذات، وبحثوا عن حلول أخرى للمشكلة. فقد ذكر اتيان دي سينانكور Étienne de Senancour 1770-1846 مثلاً أن الحل الوحيد لمشكلة الخلود هو علاج البشر من "مرض" تمني الخلود. وأضاف سينانكور بأنه يمكن للفرد أن يتخلص من خوفه بالانشغال بأمور حياته.[5]
وقد تقدم دي ساد De Sade بفكرة الانغماس في الحياة الآنية خطوةً للأمام. فهو يزدري أمنية الخلود واصفاً إياها بالغريزة التافهة، ونادى بالانغماس الكامل في الملذات، واعتبر اللذة المتجددة لممارسة الجنس وتحمل المصائب بما فيها الموت وسائل لطرد الخوف من الفناء وذلك بالانغماس في إشباع الحواس.[6]
ومثل دي ساد، يقول نيتشه Nietzsche أن الرد المناسب على قضية المعنى هو التأكيد القوي بأن الغرائز (الرغبة في القوة أو السلطة) تنافي أخلاق المسيحية "الاستعبادية". وتأكيد نيتشه للقوة وممارسة الإنسان الأمثل اللا أخلاقي لها (وفقاً لمعاييرنا) معنى لم يسبق ذكره. ومثله الوجوديون existentialists أمثال سارتر Sartre في القرن العشرين يؤكدون على أن البشر يرون أنفسهم في عالم بلا معنى (عبثي) ويحتاجون إلى خلق معنى وغاية للحياة بحرية تامة بما أن ليس للحياة معنى وغاية في الأصل.
ويمكن القول بأن الوضع أكثر كآبة حيث سعى ملحدون آخرون إلى طرد الخوف من الفناء بالتأكيد على طبيعة وجود البشر البائسة بشكل عام، وبالتالي التعزيز لفكرة الرحيل عن الحياة وأيضاً ترقب الموت أو الراحة الطويلة المنتظرة من ملل الحياة. فعلى سبيل المثال وصف نيكولا دي تشام فورت Nicolas de Chamfort 1741-1794 الحياة بأنها مرض و "علاجه" الموت. والحياة بالنسبة لتشام فورت –وهو أحد ملحدي القرن الثامن عشر- ليست إلا عذاباً مطولاً والموت هو المحرر/المخلص/المنقذ للتعساء الذين ولدوا في هذه الحياة. وقد تأثر تشام فورت نفسه باعتقاده هذا ومات منتحراً.[7] ولم يكن هذا رأي تشام فورت وحده، بل أكد الملاحدة المتفائلون مثل ديدرو وتشارلز بينو دوكلو Charles Pinot Duclos 1704-1772 وهيلفيتوس Helvetius أيضاً في بعض الأحيان على فضائل تأمل بؤس الوجود من أجل تقليص الخوف من الفناء.[8]
أما أصحاب الإلحاد الفردي البائس مثل شوبنهار Schopenhauer وستيرنر Stirner وفون هارتمان Von Hartmann فاستراتيجيتهم متقدمة أكثر. فيصف شوبنهار طبيعة وجود البشر البائسة بصراحة ويعلق أمله في الرغبة بالفناء. ويضيف بأنه سيكون من الأفضل لو أن البشر لم يخلقوا أبداً، وبما أنهم موجودون من دون اختيارهم فالانتحار خياراً شرعياً (أو ربما مرغوباً). وانتهى هارتمان في فلسفته اللا وعي (1869م) وهي فلسفة إلحادية مثبطة بعمق تدعو إلى الانتحار الجماعي للبشرية. وتنبأ هارتمان في كتابيه التدمير الذاتي للنصرانية ودين المستقبل بأن البشرية كلها ستدرك عبثية قدرها الإلحادي وستختار فناءها الجماعي بنفسها.[9] ولاحظ مينوا Minois في ما يتعلق بهذا الموضوع أن أشكال الإلحاد هذه يمكن اعتبارها الإلحاد الأكمل على الإطلاق لأنها تسمح باستبدال "عدم الإله" بغيره: الوطن أو العرق أو التقدم أو الديموقراطية ...الخ. وبالتالي يكون الوجود عبثيا.[10]
وانتهى أيضاً الشهير برتراند راسلBertrand Russell أحد ملحدي القرن العشرين إلى نتائج بائسة كسابقيه، مثل الكاتب الملحد المعاصر جون قراي John Gray في كتابه المؤثر (والمزعج): كلاب القش Straw Dogs (2002م).[11] في حين عزف الملحدون الجدد عن المشاركة في هذه القضايا مع أنه من المتوقع أن تتوسع دائرة النقاش حول معنى الحياة وغايتها مع تطور الخلافات.
---------------------------------------
المراجع:
[1] Georges Minois, Histoire de L'atheisme (La Fleche: Fayard, 1998), 371.
[2] Ibid., 369.
[3] See Michael Martin, Atheism : A Philosophical Justification (Philadelphia: Temple University Press, 1990), 13-23.
[4] Cited in Minois, Histoire, 363.
[5] Ibid., 364.
[6] Ibid., 365.
[7] Ibid., 369.
[8] Ibid., 370.
[9] Ibid., 508.
[10] Ibid.
[11] John Gray, Straw Dogs: Thoughts on Humans and Other Animals (London: Granta Books, 2002).
المصدر: