حوار مع البروفسور حميد دباشي

حوار مع البروفسور حميد دباشي

http://hamiddabashi.com/

 

ولد البروفيسور حميد دباشي Hamid Dabashi في عام 1951م، وهو مؤرّخ وفيلسوف ثقافي وناقد أدبي إيراني ـ أمريكي، وأستاذ الدراسات الإيرانية في جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، له قرابة 25 كتابا، وحرر أربعة، وهو مؤلف أكثر من 100 مقال ومراجعة. كتب حول مواضيع تتراوح من الدراسات الإيرانية، والإسلام في العصور الوسطى والحديثة، والأدب المقارن إلى السينما العالمية وفلسفة الفن (علم الجمال). تُرجمت كتبه ومقالاته إلى العديد من اللغات. كما قام بأكثر من دورٍ مرجعيٍ في أفلام سينمائية تتعلق بالإسلام والتاريخ الإسلامي، مثل استشارته في فيلم (مملكة السماء) عام 2005م من جهة المخرج العالمي ريدلي.

1- لنبدأ بسؤال بلاغي، في كتبكم استعارات رائعة، كيف تمكّنت من هذا الأسلوب اللغوي الجميل؟ وهل هناك كتب أو روايات تنصح بها؟

قال أحدهم ذات مرة أن حميد دباشي يكتب الفارسية بالإنجليزية. وقال آخر مؤخرًا إنني الفلسطيني الوحيد الذي لديه معرفة رائعة بالثقافة الإيرانية! أحبُّ الاستعارات المختلطة من هذا النوع. لا يمكن للمرء أن يكون مدركًا بالكلية لنَسَبه الفكري. لكن أقول أنني وُلدت وترعرت على اللغة الفارسية في إيران وعشت ما يقارب النصف قرن من حياتي داخل اللغة الإنجليزية. نشأت مع موسيقى عبد الحليم حافظ وأم كلثوم حيث كان والدي الراحل يطبخ لنا أثناء الاستماع إلى إذاعة البصرة. كان من أتباع جمال عبد الناصر وكانت هذه اللهجة العربية المصرية لحنًا مألوفًا لآذان طفولتي. وتنعمتُ شاعريًا في شبابي بشعر محمود درويش، وبابلو نيرودا، وناظم حكمت، وفايز أحمد فايز، ولانجستون هيوز، كل ذلك من خلال شعر أحمد شملو – أعتقد أن أسلوبنا هو نتيجة للموسيقى واللحن الذي يدخل آذاننا أكثر من مفرداتنا. أسمع فيروز ونينا سيمون ومرسيدس سوسا عندما أقرأ وأكتب وأفكر وأتذكر – لذا نعم قرأت الكثير من الروايات في شبابي، لكن استمعتُ إلى الشعر والموسيقى أكثر.  

2- سألتْ سبيفاك: هل يستطيع التابع أن يتكلم؟ وسأل دباشي: هل يمكن لغير الأوروبي أن يفكر؟ في رأيكم: هل وجدت هذه الأسئلة إجاباتها؟ أم أنك لا تزال تبحث عن الإجابة؟ وهل سيستمر  هذا النمط من الأسئلة في مساءلة النظام الغربي؟

كان السؤال بلاغيًا جزئيًا في حالتي على الأقل. كنت بحاجة إلى خرق فعل الشمولية-الأوروبية برمتها، ونزع المركزية عن أوروبا وإعادة التفكير في الممارسة بأكملها التي نسميها "التفكير". في الآونة الأخيرة فعلت شيئًا أكثر من إثارة المشاعر. كتبت كتابًا بعنوان "قلب النظرة الاستعمارية: مسافرون فارسيون في الخارج Reversing the Colonial Gaze: Persian Travelers Abroad" (كامبردج، 2020)، عن مسافرين إيرانيين وهنود طافوا حول العالم واحتفظوا بسجل مكتوب لتأملاتهم ومع ذلك تعرضوا للإساءة لأكثر من قرن من قِبل العلماء الناظرين فقط إلى الأجزاء الأوروبية من رحلاتهم – في ظل الافتراض المضلل المتمثل في "اكتشاف المسلمين لأوروبا" كما سماه المستشرق سيئ السمعة الذي رحل مؤخرًا: برنارد لويس. كان هؤلاء المسافرون في القرن التاسع عشر يسافرون حول العالم ويعيدون رسم خرائطه – بدلًا من التأكيد على أن أوروبا هي مركز الكون. كانوا يكتبون الكثير عن دلهي، أو أسطنبول، أو دمشق، أو بيروت، أو القاهرة، أو ريو دي جانيرو، أو طوكيو، أو جوهانسبرغ كما كتبوا عن باريس أو لندن. كانوا مسلمين لذا كانوا يؤدون فريضة الحج. ما علاقة المسلم الذي يؤدي فريضة الحج بـ "اكتشاف المسلمين لأوروبا؟"؟ إنه جنون استشراقي. كان طموحي الأكبر الذي تناولته أيضًا في كتابي الجديد "أوروبا وظلالها Europe and its Shadows" (Pluto، 2020) هو نزع الطابع الأوروبي عن العصور القديمة الكلاسيكية والكتاب المقدس وتقريب هاتين اللحظتين الأيقونيتين من موقعهما الفعلي – في آسيا الصغرى والثقافات المشرقية وشرق البحر الأبيض المتوسط. إن المشروع تصور جغرافي بقدر ما هو إبستمولوجي. لقد استنفد "الغرب" نفسه باعتباره صورة خادعة منذ فترة طويلة – إذا كنا فقط نصدقه ونواصل حياتنا. لذا فإنني أفكر في التفكير الإسلامي عندما أسأل بلاغيًا: هل يمكن لغير الأوربيين أن يفكروا؟!

3- في كتابك الذي يحمل العنوان النقدي الصارخ للمركزية الأوروبية: "هل يستطيع غير الأوروبي التفكير" انتقدتَ الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك في أكثر من مناسبة؛ فجيجك "الماركسي" لا يزال حبيس تاريخ "هيجل"، ونظرة "ماركس" المتمثلة في عدم قدرة "الشرق" – وغير الأوروبيين بشكل عام – على تمثيل نفسه. السؤال هو: إلى أي مدى ترى تغلغل المركزية الأوروبية في الحواضر العلمية، إذا كانت هذه نظرة فيلسوف من أوروبا الشرقية التي تعتبر من الهوماش مقابل "الميتروبوليتان" الاستعماري؟

إن العلم ليس غربيًا. العلم هو العلم. فإذا اخذتَ خوارزمية الخوارزمي (التي سميت باسمه) من هذا الآيفون الذي أكتب عليه لن تعرف آبل Apple ماذا تفعل. اكتُشف لقاح كوفيد-19 على يد اثنين من المهاجرين الأتراك الجدد إلى ألمانيا. غالبية العلماء الذين يعيشون ويعملون في الولايات المتحدة وأوروبا هم من غير البيض ومن غير الأوروبيين. خذ في حسبانك حقيقة أن نقد الأسس المعرفية لإنتاج العلوم قد حدث بالفعل في السياقات الأوروبية. خذ مثلًا الطريقة التي اقترح بها توماس كون، في كتابه بنية الثورات العلمية (1962)، مسار التقدم العلمي الذي يجب أن يقوم على التحولات في النماذج وليس التراكم الخطي للخبرات. لم تكن مثل هذه التحولات في النماذج، مثلًا من علم الفلك البطلمي إلى علم الفلك الكوبرنيكي، مغلقة على نفسها أوروبيًا، فقد اقترح مؤرخو العلوم مثل جورج صليبا وآخرين منذ فترة طويلة مركزية العلماء المسلمين مثل نصير الدين الطوسي في مثل هذه التحولات. إن الجواب على المركزية الأوروبية ليس المركزية اللاأوروبية. فالرهاب من أوروبا هو النوع الأسوأ من التقدير الشديد لأوروبا كما أقول دائمًا. لن تكون التغييرات الإبستمولوجية في مفاهيمنا العلمية عن العالَم محلية أوروبيًا بالكامل ولن تكون خارجة بالكلية عن أوروبا. في مقال كتبته مؤخرًا، لفتت الانتباه إلى الانفصال بين البحوث العلمية والاهتمامات الأخلاقية والسلوكية. كان هذا نقدًا للعلموية بسبب كوفيد-19 عندما حظي علم الطب بالكثير من الثناء. في المقال، ذكّرت قرائي بأن ابن سينا كان طبيبًا لكنه كان أيضًا فيلسوفًا رفيع المستوى – لذا فإن الحالة المعاصرة للعلموية الخالية من التأملات الفلسفية يجب أن تتذكر عصرًا لم يكن فيه انقسامًا جذريًا بين الفلسفة والعلوم. إن أناس مثل سلافوي جيجيك هم عَرَض من أعراض الإنهاك الإبستمولوجي للتأمل الفلسفي الأوروبي. إنه رجل ذكي تمامًا ولديه ولع بقلب عبارة فلسفية بطرق غير متوقعة. لكن مجمل العالَم الذي نعيشه اليوم ومعاييره المتغيرة قد أفلت من قيود الفلسفة التي لا تزال تصف نفسها بـ "أوروبية". حتى أفضل الفلاسفة الأوروبيين مثل [آلان] باديو وهابرماس – يعرفون أنهم لم يعودوا قادرين على تقديم ادعاء كامل عن العالَم وأن هذا الاعتراف يوبخ غرائزهم الفلسفية. في كتابي الأخير، أوروبا وظلالها (2019)، انخرطت في حوار مستمر مع رودولف جاسشي  Rodolphe Gasché عن كتابه الجريء والرائع، "أوروبا، أو المهمة اللانهائية Europe, Or the Infinite Task" (2008)، حيث سترى المخاوف الخاصة بفلسفة أوروبية تسعى للحفاظ على أهميتها العالمية – عبثًا. في العلم وفي الفلسفة، تغيرت الأرض كلها تحت تفكيرنا النقدي.

4- فهم بعض القراء أن ما تعنيه بكتابك "ما بعد الاستشراق: المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب" هو الرد على أطروحة إدوارد سعيد بالكلية، هل يمكنك الرد عليهم؟

خلال معظم مسيرتي الفكرية أجريت محادثة مثمرة مع إدوارد سعيد – كل ذلك بحب وإعجاب وتقدير – حتى عندما أتحرك في اتجاه مختلف عما كان يتوقعه. كما أقول دائمًا، أطلق سعيد العنان للساننا للتحدث بأفكارنا. وكما ذكرت بالتفصيل في كتابي الأخير عن سعيد، فإنني أنا وهو أتينا من تقاليد فكرية مختلفة لكن أفكارنا تتقاطع في نواح كثيرة مهمة. لولا كتاب "الاستشراق" لسعيد لكان من المستحيل حتى تخيل ما بعد الاستشراق، ناهيك عن الكتابة عنه. بهذا المعنى، فإن عملي "ما بعد الاستشراق" هو استمرار لعمل سعيد وليس رفضًا له. ونحن بحاجة إلى التفكير في العمل النقدي باعتباره مرحليًا وليس كدفعة 100 متر. استبق عملَ سعيد أنورُ عبد الملك وطلال أسد وفوكو وجرامشي ونيتشه..إلخ. بل إن الأمر أوضح في عملي "في عشق الثقافة الفارسية Persophilia" أكثر من عملي "ما بعد الاستشراق"، إذ دائمًا ما أعتبر الأول هو وجهة نظري حول "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية" معًا. لكن على نفس القدر من أهمية سعيد، هناك عمل جورج مقدسي أستاذي، ولا سيما في مجال الإنسانية الأدبية الذي هو امتداد عمل سعيد اللاحق – كمفكر نقدي، هذا هو المكان الذي أكون فيه أخلاقيًا وسياسيًا وفكريًا، هذا هو بيتي وموطني.

5- في كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق"، العمل الرائع، اعتمد سعيد بالأساس على ميشيل فوكو في مجال علم اجتماع المعرفة، فما هي الكتب التي تودّ لو كان سعيد قد اعتمد عليها أيضًا؟ وما هي أفضل الأعمال المعاصرة في هذا المجال في نظركم؟

أنا لا أفضّل أي كتاب على "الاستشراق" لسعيد. أضع الاستشراق ضمن الكتب المهمة بالنسبة لي قبل سعيد وبعده، لكن ليس بدلًا من سعيد أبدًا. لكن بالإضافة إلى فوكو، كان هناك مفكران بارزان مهمان لسعيد، خصوصًا في "الاستشراق". أحدهما هو نيتشه، والآخر جرامشي. أميل في عملي إلى جعل سعيد يتجه أكثر إلى نيتشه وجرامشي من فوكو – مما يوسع الأبعاد الأكثر راديكالية لعمله في اتجاهات لم يكن يتوقعها. بقدر ما يتعلق الأمر بمجال علم اجتماع المعرفة، وكما أوضحت بالتفصيل في كتابي "ما بعد الاستشراق"، فإن المفكرين المؤثرين مثل جورج هربرت ميد، وكارل مانهايم، وماكس شيلر، وكارل ماركس قد كانوا متقاربين زمنيًا ولهم نفس القدر، إن لم يكن أكثر، من الأهمية – على الأقل بالنسبة لطريقة تفكيري. لكن هناك أعمال أحدث لها نفس التأثير مثل:

- Y. V. Mudimbe’s Invention of Africa and Enrique
- Dussel’s Liberation Philosophy
- Walter Mignolo’s Darker Side of Western Modernity

- Kojan Karatani’s Structure of World History

6- كلمة "ثقافة" مشتقة من الجذر العربي "ث ق ف"، الذي يعني تصحيح شيء أعوج. إلى أي مدى يلتقي دور المثقف في رؤيتكم مع هذا المعنى العربي؟

إن الثقافة بالإنجليزية أو بالعربية متأصلة في التفكير النقدي – يمكننا تتبع مفهوم الثقافة أيضًا في الأدب والتأديب العربيان – التنشئة الصحيحة أو ما يسميه الألمان Bildung – أنا أسمي هذا المزيج من الثقافة والأدب العربيان بالتعليم الحر باعتباره زراعة الحكم النقدي للمواطنة المسؤولة. على الرغم من أننا يجب أن نكون حذرين من أن هناك شيء أبوي حول افتراض "تصحيح شيء أعوج" – بينما في تاريخ الأدب بالمعنى العربي أقترح معنى متمثل في التبادل الحواري، وليس الحوار الفردي. فالمسألة لا تتعلق فقط بالتحدث بالشكل الصحيح وإنما أيضًا – بنفس القدر من الأهمية – الاستماع بانتباه. لدينا أذنان وفم واحد كما نقول، مما يعني أننا يجب أن نستمع ضعف ما نتحدث.

7- ما هي الكتب التي قدمت بعض الأفكار الرئيسية في كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد قبله؟

لدينا العديد من الإشارات إلى أفكار سعيد مثل إشارات أنور عبد الملك وبرنارد كوهن، لكن ربما الإشارات الأقوى كانت في عمل طلال أسد "الأنثروبولوجيا واللقاء الاستعماري Anthropology and Colonial Encounter". بل إن هناك مصادر أسبق قمت بفحصها في كتابي "ما بعد الاستشراق". لكن لم يفعل أي عمل منها ما فعله كتاب سعيد لأسباب متنوعة، لكن ربما كان الأمر الأكثر إثارة للمشاعر هو انشغال سعيد بقضية فلسطين التي أصبحت بالنسبة له معيارًا للنقد المناهض للاستعمار. وهناك بالطبع العنصر الإضافي، وهو أن سعيد كتب من قلب الأكاديمية الأمريكية، التي كانت دائمًا معقلًا للفكر المحافظ. كان وضع سعيد كباحث بارز في جامعة رئيسية من جامعات رابطة اللبلاب حاسمًا لسلطة ونطاق تأثيره.

8- لقد تحدثتَ بإسهاب عن موقف إجناس جولدتسيهر غير الصيهوني وغير الاستعماري، فهل كان لأي من رواد النقد الكلاسيكي للفقه الإسلامي نفس موقف جولدتسيهر؟

كان تحولي إلى جولدتسيهر عَرَضيًا تمامًا. فقد أعيد نشر مجموعة من مقالاته الكلاسيكية عن الإسلام في الولايات المتحدة وطلب ناشره مني أن أكتب مقدمة قصيرة لتلك الطبعة. بدأت أقرأ في سيرته الذاتية وأدركت الرعب المروع الذي ارتكبه الصهاينة ليحيط باسمه وسمعته الطيبة لأنه كان باحثًا موهوبًا، ويهوديًا أخلاقيًا وشريفًا، فخورًا بإيمان أجداده، لكن لم يكن صهيونيًا. لقد رفض ببساطة أن يكون لاسمه علاقة بالسطو المسلح على الفلسطينيين. يتعلق جوهر وجهة نظري في جولدتسيهر بتوضيح الاستشراق باعتباره نظرية إبستمولوجية استمعارية وليس هجومًا متماثلًا على المستشرقين – الذي كان نتيجة ثانوية مؤسفة للقاء إدوارد سعيد ببرنارد لويس. كان هدف قراءتي لجولدتسيهر هو إزالة السموم من تلك البيئة السامة وإعادة القضية إلى المقدمة الإبستمولوجية للاستشراق. من نواح عديدة، رأى جولدتسيهر نفسه على أنه مدرسي يهودي في نقاش ومحادثة مع المدرسية الإسلامية. هذا هو الجزء الذي أثار اهتمامي لكن للأسف لم يكن لدي الوقت الكافي في هذا المقال لتطويره، على الرغم من أنني تناولته في مكان آخر. لطالما فكرت في جولدتسيهر على أنه استمرارية لموسى بن ميمون، في قومه تمامًا لكنه على دراية بمحاوريه المسلمين. كانت النقطة هنا هي الحفاظ على النقد المناسب من إدوارد سعيد للاستشراق، مع تجاهل غضبه وإحباطه من المستشرقين الصهاينة الذين يمثلون فئة مختلفة تمامًا. قدَّم جولدتسيهر مثالًا رائعًا تمامًا لباحث يهودي متدين متقن حقًا للتاريخ الفكري الإسلامي. لذلك كانت نظريته المعرفية مختلفة بشكل ملحوظ عما يقوله شخص مثل برنارد لويس الذي طغت الصهيونية الغليظة والرهاب من الإسلام على دراسته الهزيلة.

9- ما رأيك في الاستشراق المعاصر، خاصة في الألفية الثالثة وفي مجال الدراسات القرآنية، من حيث الجودة والاختلاف في الأهداف عن الاستشراق الكلاسيكي؟

انتهى الاستشراق منذ زمن بعيد. يعرف السياسيون والنقاد الأوروبيون اليوم ما هو الإسلام – لقد استنتجوا أن الإسلام مرض مثل السرطان. لذا فإن الصلة بين المستشرقين الأوروبيين وسياسيهم قد خلصت إلى هذه الغدة المرَضَيّة. كان الاستشراق الكلاسيكي نتاجًا لفترة من الفضول الإبستمولوجي وإرادة الغزو والسيطرة. كانت تلك أكثر فترات الاستشراق إنتاجًا، بل تألقًا. اليوم ليس لدينا أي شخص بمكانة جولدتسيهر. من جولدتسيهر الرفيع ذهبنا إلى برنارد لويس السخيف. أما بالنسبة للدراسات القرآنية، فلماذا يترك أي شخص نصرَ حامد أبو زيد أو محمد شبستري ويذهب ليقرأ لأي مستشرق يفتقر إلى الحميمية النقدية للنص المقدس عند المسلمين. إن الدراسة الجادة للإسلام، بما في ذلك القرآن، قد تجاوزت المستشرقين والاستشراق منذ زمن طويل.

10- إلى أي مدى ساهمت السينما الأمريكية في ترسيخ غطرسة الغرب بشكل عام؟ خاصة فيما يتعلق بالنظرة الدونية للعرب؟

إن هوليوود هي القوة الناعمة للإمبراطورية الأمريكية. قدَّم الراحل جاك شاهين في كتابه الرائد "العرب السيؤون: كيف تسيء هوليوود للشعوب" (2001) مرجعًا دقيقًا عن الدور الخبيث لهوليوود في تشويه سمعة العرب والمسلمين. لقد فعلوا ذلك بنفس الطريقة التي انتهجوها مع الأمريكيين الأصليين، والأمريكيين الأفارقة، ثم مع الألمان خلال الحرب العالمية الثانية. كانت العبارات المجازية الشهيرة متطابقة تقريبًا. الأمريكيون الأصليون متوحشون، والأمريكيون ذو الأصل الأفريقي أغبياء، والألمان مغفلين – وأصبح العرب والمسلمون مزيجًا من كل هذه الكليشيهات المرَضَية: العنف والغباء والتعصب. لكن من الضروري أن نأخذ في الاعتبار أن هوليوود لم تعد تتحكم في كيفية ظهور العرب والمسلمين في جميع أنحاء العالم. لم يترك الصعود المذهل للسينما العربية والإيرانية والتركية وغيرها في جميع أنحاء العالم مساحة لهوليوود للقيام بأضرارها المعتادة. بفيلم واحد رائع، "مقدمة إلى نهاية جدال Introduction to the End of an Argument" (1990)، قام إيليا سليمان وجايس سلّوم بتفكيك صناعة هوليوود بأكملها للعرب الخبيثين. أصبحت السينما الفلسطينية على وجه الخصوص طيفًا شاهقًا من صانعي الأفلام اللامعين الذين يعرّون هوليوود – وإذا أصبحت ضابطة استعمارية إسرائيلة مثل غال غادوت [الممثلة وعارضة الأزياء] سلعة جديدة في هوليوود، فهناك عدد لا يحصى من المقالات والمدونات التي تثير فضيحة الفكرة ذاتها. لقد تطلب الأمر ملايين الدولارات لإنتاج فيلم مثل " Wonder Woman" (2017) تظهر فيه غال غادوت. وما عليك سوى كتابة مقال من بضع مئات من الكلمات على الجزيرة لتعرية تفاهة كل هذا. لقد هددنا الملكة هوليوود وقتلناها!

11- مشروعكم مترامي الأطراف ويغطي العديد من المجالات، فما هو العمل الحالي الذي بين يديك؟ ما هي الموضوعات أو الأفكار التي تأمل في العمل عليها إن كان لديك متسعا من الوقت؟

كان عملي خلال العقدين الماضيين على وجه الخصوص منشغلًا بموضوعين متصلين بالمجال العام المتجاوز للقومية والمجال الخاص الما بعد الاستعماري. أواصل استكشاف أنواع الطرق التي يتم بها تحريف العوالم التي نعيش فيها، وما زلت أفكر في كيفية تشكل ذواتنا، وما هي المعجزات التي تمثلت في أن بإمكاننا الوقوف والتحدث بضمير المتكلم رغم وحشية الاستعمار الأوروبي. إن فلسطين هي الموقع الأكثر تعبيرًا على نحو مدهش عن هذه الحقيقة، والعالم بأسره يستشد بها بتنوع. هذه هي الموضوعات الموحدة لعملي الأحدث. ما زلت أتأرجح بين الحقيقة والخيال، بين الفن والسياسة، بين المحلي والعالمي. أصبح عملي الحالي على نحو متزايد متعلق بالسيرة الذاتية – ليس سيرتي الذاتية وإنما سيرتنا – بمعنى استكشافات للطرق التي يمكننا من خلالها أن نقول نحن. من الذي مكّننا، وبأي طريقة، من أن نقول نحن؟ كتابي الأخير "عن إدوارد سعيد: ذكرى أمور ماضية On Edward Said: Remembrance of Things Past" (2020) يصب في هذا المعنى. وفي غضون شهرين، سيصدر لي كتاب آخر من مطبعة جامعة إدنبرة، "المفكر المسلم الأخير: حياة وإرث جلال آل-أحمد The Last Muslim Intellectual: The Life and Legacy of Jalal Al-e Ahmad" (2021) وهو أيضًا في نفس السياق. كل هذه الأعمال الحديثة هي بالتأكيد مناهضة للإثنوجرافيا، وتستهدف المشروع الرجعي لعلم الإثنوجرافيا الذاتية، تحديدًا لأن الفرع المعرفي الكولوني للأنثروبولوجيا قد اختزلنا نحن ما بعد الكولونياليين في عرقياتنا العامة، ويجب علينا التمرد والثورة على تلك النظرة الأنثروبولوجية.

12- هل رسخت الأنثروبولوجيا الكلاسيكية فكرة سمات "العقل غير الغربي"؟ وكيف فعلت ذلك؟

دائمًا ما كانت الأنثروبولوجيا القوة الناعمة الأخرى للإمبريالية، وما زالت. إلى أن جاء عمل المفكرين النقديين مثل طلال أسد وإدوارد سعيد، كانت طريقة العمل الواضحة للأنثروبولوجيا هي تشكيل غير الأوربيين على أنهم بدائيون وأصليون، مما يمنح "الغرب" مرآة مُصنعة ينظر فيها ويعجب بالتهاني الذاتية الحضارية! كان المشروع ولا يزال قائمًا بالكامل على الغائية الهيجلية Hegelian teleology – اعتبار كل من الماضي الأوروبي والحاضر غير الأوروبي طفولة إنجازات السلالة المتسيدة. ولم يتغير الأمر حتى بأهوال الهولوكوست عندما عاد وهم هذه الغائية ليبتلع فكرة "أوروبا" نفسها. فلا يزال الفلاسفة الكبار لأزمة ما بعد الهولوكوست مثل [ثيودور] أدورنو و[ماكس] هوركهامير  غير قادرين على الشفاء من مركزيتهم الأوروبية. نحن مدينون للإرث الفكري الهائل لنهضة هارلم خاصة في شخصيات مثل جيمس بالدوين التي بدأت في تفكيك الأساس العنصري لهذه التفاهة الهيجيلية بأكملها ثم في الشخصيات الثورية مثل مالكولم إكس التي ربطت تجاربها ببقية العالم. وإلا فإن الهولوكوست لم يستطع أن يعالج الفلاسفة الألمان وغيرهم من الفلاسفة الأوروبيين من مرجعية ذاتية معصوبة العينين.

13- في مقالك "انبعاث الإلحاد الجديد"، للوهلة الأولى، لا يجد القارئ علاقة مباشرة بين الإلحاد والإمبريالية، خاصة وأن الفكر الإلحادي يدّعي أن الأديان هي سبب الإرهاب والتمييز بين الناس، فما هو تفسيرك لهذا الربط؟

كتبت في هذا المقال عموما عما يسمونه الإلحاد الجديد. إن الإلحاد الجديد هو الإسلاموفوبيا في قناع رقيق وبائس – فجميع حضارات العالم الرئيسية بما في ذلك الحضارة الإسلامية لديها تقاليد غنية وقوية من الإلحاد([1]). اقرأ كتاب عبد الرحمن بدوي "تاريخ الإلحاد في الإسلام". هؤلاء الملحدين الأوروبيين والأمريكيين الجدد مثل سام هاريس، وريتشارد دوكينز ، وكريستوفر هيتشنز هم مؤدلجون ليبرالبيون للإمبريالية الأمريكية، وأطلقوا على ليبراليتهم المتشددة "الإلحاد". في الواقع ، نفس حالة الإسلاموفوبيا العنصرية والمتطرفة هي من عمل الملحدين الجدد. وليس من قبيل المصادفة أن جميعهم صهاينة مناضلون أيضًا.

14- هل من الممكن التحرر تمامًا من نظام المعرفة الغربي؟ حتى في نقد المركزية الأوروبية، والكولونيالية، وما بعد الكولونيالية، وما بعد النسوية،..إلخ، كان النقد والتحليل وإعادة الهيكلة بأدوات المعرفة الغربية. ألا يمكن إنتاج المعرفة بعيدًا عن الغرب؟

نعم، ممكن – لكن الرهاب من أوروبا هو النوع الأسوأ من التقدير الشديد لأوروبا. لا يمكنك التغلب على المركزية الأوروبية بأن تصبح محليًا أو انعزاليًا أو أصلانيًا. على مر التاريخ، كانت الثقافة والحضارة الإسلامية دائمًا في حوار، وكذلك حال الحضارة الهندية، والفارسية، والصينية، إلخ. لطالما كانت أوروبا نفسها توليفًا بين الثقافات. لماذا تمتلئ المكتبات والمتاحف والجامعات الأوروبية بالمخطوطات العربية والفارسية والسنسكريتية والصينية؟ لا توجد ثقافة نقية وحمدًا لله على ذلك – لأن الأيدولوجيات النقية فاشية. فالثقافات السليمة والقوية في محادثة مع العالم. لن يؤدي التغلب على المركزية الأوروبية إلى صعود الأصالة العربية أو الإسلامية أو الهندية أو الصينية. كما أن كل ظروف الاستعمار وما بعد الاستعمار قد انتهت. لقد حررت الثورات العربية في العقد الماضي أذهاننا من تخيل العالم من منظور "الإسلام والغرب" – في كتابي عن الثورات العربية سميت هذا "جغرافية التحرر". أينما كنتَ: هذا هو مركز الكون. ومهما تكون، أنت صورة مصغرة لوجودنا الدنيوي. هذه لحظة تمكين مدهشة وعميقة في تاريخ العالَم.

 

 

 

[1] يبدو أن دباشي يقصد الإلحاد بالمعنى العام، وليس الإلحاد بمعنى إنكار وجود الله، وأن الحجاج في أمور مثل علم الله بالجزئيات كان مدرسيا لا أيدلوجيا. وإلا فالإلحاد بمعنى إنكار وجود الله لا يمكن وصفه بأنه كان يمثل "تقليدا"، سواء في الإسلام أو العصور الوسطى الغربية (هيئة تحرير أوج).