التفسير المادي

التفسير المادي...
(من كتاب التطور نظرة تاريخية وعلمية : وقفات من ذاكرة نشأة التطور وإلى اليوم - محمد الهبيلي - الطبعة الأولى 1437هـ/2016م)

يقول دوكنز: «الأحياء هي العلم الذي يدرس الظواهر الحية التي تبدو وكأنها مُصممة لغاية»(1).
Biology is the study of complicated things that give the appearance of having been designed for a purpose

لاحظ.. تصميم وغاية.. لكن الرجل يترك أهم ما في التعريف، ويتمسك بمخرج (تبدو)!!.. هو يحاول التصريح بأن التصميم مجرد وهم.. عندها نسأل: وهل يُبنى العلم التجريبي على الغيب، أم على ما يبدو أمامنا؟!

سبحان الله..

الرجل الذي يدعي محاربة الغيبيات يلجأ إلى الغيبيات، وليس إلى ما يبدو ظاهراً أمامنا!!

هنا يجب التنويه إلى أن التفسير المادي مطلوب، لا أحد يعترض على ذلك حتى الخلقيون، فعندما أريد تفسير عمل الحاسب الآلي سأقول: «هارد وير» و«سوفت وير»، وأبدأ بتفسير كيفية عمل كلٍّ منهما، المشكلة هي ادعاؤهم أن النجاح في شرح الآلية ينفي الْمُسبب أو الغائية أو التصميم، وهذا من تلبيسهم على الناس، وهنا الكارثة التي ألزم المجتمع العلمي نفسه بها سلفاً!!

الباحث يرى أمامه تصميماً في قمة الروعة والتعقيد، لكنه مضطر للبحث عن تفسير آخر!..

وهذا ما قرأناه من قبل لتود سكوت في مجلة Nature قائلاً بكل صراحة: «حتى لو أشارت البيانات إلى تصميم ذكي، فإنها تُستبعد فوراً؛ لأنها لا توافق التفسير المادي»(2).

وحتى أعطيكم صورة مباشرة لما أقصده، سأعيد صياغة الجملة: «يجب تفسير وجود الحاسب الآلي بآليات مادية تشرح كيفية عمله بغير مصمم له، وعليه فإن هذا التفسير المادي يعني أن علامات التصميم التي تبدو ظاهرة أمامنا هي مجرد وهم»..

هل وصلت الصورة؟

حسناً.. دعونا نكمل.. ما هو تعريف التصميم عموماً؟

هو عملية جمع عدة عناصر متباعدة ووضعها في تكوين معين؛ لإعطاء شيء له مدلول أو وظيفة محددة.

وهنا نتحدى أي أحد أن يشرح لنا عمل الخلية أو الأعضاء الحيوية بدون أن يُطبق هذا التعريف حرفياً.

تعالوا الآن نتابع ما قاله دوكنز في إحدى مقابلاته في الفيلم الوثائقي الشهير (مطرودون: غير مسموح بالذكاء) Expelled No Intelligence Allowed، والذي شكل ما يشبه الصدمة لدى أنصار التطور من شخصية تُعتبر بمثابة رأس الداروينية اليوم:

المقدم بن ستين: هل هناك تصميم في الخلية؟

دوكنز: إذا نظرت لتركيب الخلية فستجد علامة تصميم.

بن ستين مندهشاً: فما مصدره؟

دوكنز: لا نعلم.. قد تكون هناك كائنات فضائية تطورت على الطريقة الداروينية هي مَن صمم الحياة هنا (3).

انتهى.

إذاً هو لا ينكر التصميم أو حتى المصمم.. تعرفون لماذا؟.. لأن مشكلته الحقيقية تكمن في ماهية المصمم!

كما أن هذه الإجابة تحوي مغالطة كبرى، فإثبات وجود كائنات فضائية قامت بتصميم الحياة سوف يسقط مباشرة الفرضية الداروينية، وعليه فلن يكون هناك معنى لكائنات تطورت على الطريقة الداروينية في مكان آخر في الكون؛ لأن التصميم قد ثبت، ومن ثم سيكون من الطبيعي أن تفسير وجودها سيحتاج لتصميم أيضاً، وليس إلى تفسير ساقط كنظرية التطور؟!!

لكنها عادة دوكنز في التلاعب بالألفاظ وخداع العوام.

ولأن دوكنز لا يستطيع التصريح بأن رفضه للتصميم (رغم اعترافه بوجوده) ينطلق من رفضه لماهية المصمم، فقد قام في عدة لقاءات أخرى بتغليفه في إطار فلسفي وقال: هذا سيجعلنا نتساءل: «مَن صمم المصمم»؟ وهذا سيزيد المعضلة.

وهي المحاجة المركزية لكتابه (وهم الإله).

وهنا يقع الرجل في سقطتين:

1) سقطة علمية: حيث أصغر طالب في كلية العلوم سيخبرك أن أفضل تفسير لا يحتاج إلى تفسير، وإلا فلن نصل إلى شيء؛ لأننا سندخل في سلسلة مستمرة لا تتوقف (تفسير يحتاج لتفسير ثم يحتاج لتفسير، وهكذا إلى ما لا نهاية)، وعليه فلن نفسر أي شيء.

2) سقطة فلسفية: وهي جهله المطبق بقانون السببية، فالحادِث هو ما تحقق وجوده بعد أن لم يكن موجوداً، ولكل حادِث علة أو سبب من خارجه لا تخضع لقوانينه، وإلا فسنسقط في مغالطة عقلية ومنطقية تقول إن الحادِث يمكن أن يمارس تأثيراً على نفسه قبل أن يوجد.

وبما أن الكون حادِث (له بداية معلومة) إذاً فلا بد أن يكون له عِلة من خارجه، أو بمعنى أدق: مُحدِث، لكننا لا نستطيع تطبيق الشيء نفسه على المُحدِث؛ لأنه ليس حادِثاً معلوم البداية، ومن ثم فهو غير خاضع لقوانين الحادِث، وهنا يكمن الفرق.

لذلك هاجم فيلسوف العلوم الملحد مايكل روس في لقاء مع جون ديكسون John Dickson عام 2009م هذه المحاجة قائلاً: «دوكنز يطرح السؤال: مَن خلق الله؟ وكأنه قد انتصر وانتهت القضية!! هذا السؤال كنا نردده ونحن طلبة مراهقون، ويوجد عليه رد منطقي يكمن في قانون العليِّة»(4)

انتهى.

أمر آخر.. وجود الكون نفسه يثبت أن هناك عِلة أولى واجبة لذاتها، وإلا لاستمرت السلسلة (خالق يخلقه خالق يخلقه خالق) وهكذا إلى ما لا نهاية بحيث لن يوجد الكون أصلاً، مثل أن يُطلب منك أن تسقط أول قطعة دومينوز ليمتلئ الكوب في النهاية.. فتمتنع حتى يأتي شخص آخر ليسقطها، وهو يمتنع حتى يأتي ثالث، إلى ما لا نهاية، وبذلك لن يمتلئ الكوب أبداً، امتلاؤه يعني أن هناك عِلة أولى قامت بإسقاط أول قطعة.

يقول عالم الفلك الكندي د. هيو روس Hugh Ros: «إذا كانت المادة والزمان قد ظهرا معاً نتيجة الانفجار، كان لزاماً أن يكون موجدهما مستقلاً عنهما»(5).

هذا إذا أردنا الالتزام بالعلم والمنطق، لذلك واجه كتابه (وهم الإله) عاصفة من الهجوم، واعتبره فلاسفة كبار أمثال وليام لان كريج وديفيد برلنسكي ومايكل روس سقطة لا تنطلي إلا على العوام والجهلة، والدليل تأثيره الكبير على عوام الملاحدة.

دوكنز لا يجرؤ على طرح هذه الحُجة السخيفة (مَن صمم المصمم) في مناظرة عامة ضد خصم متمكن؛ لأنه سيحكم على نفسه بالإعدام رمياً برصاص المنطق.

---------------------------------

المراجع :

(1) ريتشارد دوكينز - كتاب صانع الساعات الأعمى ص 1.
Dawkins, R., The Blind Watchmaker, W.W. Norton & Company, New York, USA, p. 1, 1986

(2) Todd, Scott C. [Department of Biology, Kansas State University, USA], «A view from Kansas on that evolution debate,» Nature, Vol. 401, 30 September 1999, p.423.

(3) الفيلم متوفر على موقع اليوتيوب بنسختيه الإنجليزية والمترجمة عربياً، ولكنه محجوب في عدد من دول أوروبا للأسف!!.

(4) https://www.youtube.com/watch?v=XSxZLBxrnPc

(5) The Creator and the Cosmos. Colorado Springs: NavPress, p. 122.