صوت التصفيق ..! (من كتاب نظرة خلف الستار : بائعو التشكيك تحت المجهر - سامي أحمد الزين - مركز دلائل - الطبعة الأولى 1437هـ/2016م)
إن من شبه المستحيل أن يجد الباحث مناظرة لهيتشنز لا يعلق فيها على تصفيق الحضور - إن كان التصفيق في مصلحة خصمه طبعاً - أو ربما حتى تصفيقهم لمن يدير الحوار كما في مناظرته في أوكسفورد مع الفيلسوف الاسكتلندي(1) (John Haldane).
سآتي لاحقاً على قصته مع التصفيق في مناظرة الحاخام (Harold Kushner) والقس الراحل (Peter J. Gomes)، لكن في هذا الموضع أود أن أشير إلى مبالغة هيتشنز الواضحة جدّاً في التعليق على تصفيق الحضور خلال مناظرته الشهيرة مع شقيقه الأصغر بيتر عام 2008م (2) في الـ (Grand Valley State University) في ولاية ميتشيغين الأمريكية، مع العلم أن تصفيق جهموره الملحد هو أكثر ما أضاع الوقت في تلك المناظرة. فعلى سبيل المثال؛ حينما انتهى أحد السائلين الغريبي الأطوار من سؤاله عن التصميم الذكي في مقابل التطور - إن كان هذا ما قصده فعلاً - أجاب بيتر بإجابة ذات دلالة خطيرة سنتطرق إليها عند حديثنا عن دوكنز؛ لكن ما يهمنا هنا هو أن كريستوفر علق على إجابة بيتر فور انتهائه منها، وهذا هو الأمر العجيب في تلك المناظرة.. في حال كان السؤال موجهاً إلى كريستوفر فإنه يجيب ويصفق له جمهوره ثم يتم الانتقال إلى السؤال التالي، أما في حال كان السؤال موجهاً إلى الشقيق بيتر فإن كريستوفر دائماً ما يمتلك حق التعليق على إجابة بيتر بعد فراغه منها! وما يزيد الأمر عجباً أن تعليق كريستوفر هيتشنز الذي رأى جمهوره أنه يستحق التصفيق كان الآتي: (كون التطور قد حدث فذلك أمر تم إثباته بشكل نهائي عن طريق سجلات البيولوجيا الجزيئية وسجلات الأحافير)! صحيح أن إجابته - أو بالأحرى تدخله في الإجابة - لم تنتهِ عند ذلك الحد: ولكن لماذا لم يعلّق كريستوفر على ذلك التصفيق السخيف الذي لم يكن ليفوته إن كان لمصلحة خصمه؟
ذكرنا أنه بسبب دفاعه المستميت عن جورج بوش الابن في برنامج الملحد المتصهين (Bill Maher) تعرض هيتشنز لـ (تصفيقات معادية) جعلته يستشيط غضباً من الجمهور الحاضر الذي رشقه هيتشنز بشتى أوصاف الغباء والحمق والجهل وقلة العقل، هذا بالإضافة إلى العبارات والإشارات النابية التي لا تصدر إلا من رعاع الناس في الخفاء. الأعجب من رد فعل هيتشنز كان رد فعل من يقدسونه من ملاحدة الإنترنت والذين انهالوا بدورهم بتعليقات السباب والشتائم على الجمهور الذي كان حاضراً في الاستديو والذي حسب رأيهم كان يصفق دون سبب! وللقارئ أن يتخيل الوقاحة التي يمكن أن يصل إليها بعض البشر؛ كريستوفر هيتشنز وملاحدته يشتكون من تصفيق الجمهور دون سبب! وهل كان من الممكن أصلاً لشيء مثل هيتشنز أن يبقى تحت الأضواء لولا تصفيقات وهتافات جمهوره الرخيصة له؟ مفاجأة!
إن من لم تقنعه الأدلة السابقة مجتمعة على أن المدعو هيتشنز كان مصاباً بداء الشهرة المزمن والمتأزم؛ فإنني أقدم إليه هذا النص من سيرة هيتشنز الذاتية (HITCH-22) من الفصل الذي أسماه "كريس أو كريستوفر" والذي كتبه عن الفترة التي قضاها طالباً في أوكسفورد: " بين الفينة والأخرى وعلى الرغم من أن اهتمامي حينها كان منصبّاً على أن أطارد الفتيات الشابات إلّا أن انتكاسة بسيطة وممتعة قد تحدث، وأظن أنه بإمكاني أن ’أزعم’ هذا عن اثنين من الرجال اليافعين أصبح كل منهما لاحقاً عضواً في حكومة مارغريت ثاتشر"!.. ثم يضيف على ذلك: "لأجل هذا بالتحديد لا أستطيع أن أذكر أي اسم.. ".. ما الهدف من ذكر هذا؟
يقول كذلك في الفصل الذي أسماه "مارتن": أعتقد الآن أنه بإمكاني أن أبرئ نفسي تقريباً من أنني كنت قد رغبت في مارتن (Martin Carnally)، وقد كان مظهري حينها قد انحدر إلى درجة أن النساء وحدهن من كن يرضين بممارسة الجنس معي.
وقد كان هيتشنز قد ذكر أيضاً قصة تعرّضِه للتحرش من قبل سائق شاحنة ركب معه ليوصله للمحطة التالية، بالإضافة إلى قصة علاقته الجنسية الأولى والتي كانت علاقة شاذة بفتى كان يكبره سنّاً ويُدعى (Guy) غاي، والتي يقول بعدها إنه كان لا يزال يشعر بشيء من الرعشة حينما يسمع ذلك الاسم وبعد كل تلك السنوات حتى في أمريكا وهو اسم منتشر فيها كما يقول! المهم أنه وبعد كل ذلك الشذوذ يقول: " آملاً في أن أتعلم درساً أو اثنين من أكثر اللحظات كآبة وانحطاطاً فإنني قد أرشح أمراً أو اثنين تعلمتهما.. الأول؛ على الرغم من أنني بالعموم سعيد من عدم كوني شاذّاً جنسيّاً إلا أنني..." لحظة واحدة.. ماذا؟ ليس شاذّاً؟!.. المصيبة هي أن الملحد عادة ما يطلب من المؤمن أن ينظر إلى النصوص الدينية بنظرة الفاحص المتشكك، هذا في الوقت الذي يعجز فيه هو عن النظر إلى أقوال وأفعال هذا المريض الشاذ بالطريقة نفسها.
هل يمكن أن يكون هناك سبب آخر غير (الشهرة) قد يدفع هيتشنز إلى أن يصرح بالكلام السابق؟ ثم ما قصة أن مظهره انحدر لدرجة أن النساء وحدهن من بتن يرضين به؟ أليس واضحاً أن دفاع الملاحدة المهترئ عن "حقوق المرأة" ما هو إلا غطاء لقبحهم الداخلي؟ ما هو موقف (المرأة الملحدة) من ذلك التصريح الذي كان يتحاذق به زعيم الإلحاد الهالك؟
أضف إلى كل ما سبق (المعلومة) التي يحب ذكرها دائماً بأن رئيسة الوزراء السابقة مارجريت ثاتشر كانت قد ضربته على مؤخرته ثم وصفته بالفتى الشقي، وأن الأم تيريزا كادت تقوم (بخربشته) دون أن يخوض في التفاصيل في معظم الأحيان التي يأتي فيها على ذكر تلك القصص وكأنه يريد أن يقول: إنني مثير للاهتمام أكثر مما تظنون. أضف إلى ما سبق أيضاً مقاله في (VANITY FAIR) الذي يحمل عنوان: (لماذا لا تزال النساء غير مضحكات) كذلك مقطع اليوتيوب الذي يتكلم فيه بالكلام نفسه أيضاً (3). بإضافة جميع ما سبق إلى شخصية كريستوفر هيتشنز ستعرف أن الشهرة والشهرة فقط هي ما عاش حياته البائسة من أجله.
لا، لا آخذ هجوم هيتشنز على الدين بمحمل الجد، بل إني لا أقيم وزناً لكل من يأخذ هيتشنز على محمل الجد! ببساطة إن من يعرف القائمة الطويلة لضحايا هيتشنز سيعرف أن الدين ما هو إلا الهدف الأغلى والأثمن لتلك الشخصية غير المحترمة، الدين الذي دخل تحت رادار هيتشنز بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 م حتى كتب كتابه السقيم العقيم (الإله ليس عظيماً) في العام 2007 م، ولنا أن نتصور أن شخصية مثل التي تعرفنا عليها حتى الآن؛ أتتها فرصة لأن تروج لنفسها على أنها صارمة وحازمة إلى درجة أن الإله نفسه معرّض لسهام نقدها.
- إن كلمة (pretentious) هي كلمة إنجليزية ليس لها وللأسف الشديد معنىً مطابق باللغة العربية، لكن ربما تكون كلمة (دعيّ) هي الأقرب لها من حيث المعنى. إطلاق تلك الكلمة على شخص يعني أنه شخص يحاول التأثير على الناس بتظاهره - زوراً - بأن له قيمة أعلى أو لقضيته أهدافاً أسمى مما هي في الحقيقة، هو إذاً المتفلسف طالب الصيت الزائف. وأعتقد أن القارئ الكريم قد عرف مباشرة السبب وراء هذا التعريف بتلك الكلمة؛ لأنها مطبوعة على جبهة كريستوفر هيتشنز، مطبوعة على كل ما قاله، كتبه، حرره، فعله أو حتى أقرّه. كان هيتشنز قد اعترف مرة بأمر لا يحتاج اعترافاً أصلاً؛ ألا وهو إلقاؤه في بعض الأحيان لبعض التعليقات من أجل الحصول على بعض الضحكات (الرخيصة) من حين لآخر، وهو ما فعله بالضبط في المناظرة مع الحاخام الأمريكي (4) (Harold Kushner)، فبعد أن رد الحاخام على هجوم هيتشنز على الختان بقوله: لقد بكى ولدي أثناء قص شعره لأول مرة أكثر مما بكى خلال ختانه، علق هيتشنز مقاطعاً كعادته بسرعة (ودون تفكير) بقوله: لم تكن تفعله بالشكل الصحيح إذاً، مما جعل الجمهور يستكمل ضحكاته التي بدأت بتعليق الحاخام، فأضاف الحاخام بعد ذلك قوله: إحصائيّاً؛ تأثيره - أي الختان- الطويل المدى والوحيد على الناس هو أنه يرفع فرصهم في الحصول على جائزة نوبل.
اليهود هم من أكثر الناس حصولاً على جائزة نوبل في المجالات العلمية تحديداً، مما يوضح ما قصده الحاخام بعبارته وهو أن ليس للختان أي ضرر على اليهود الذين يمارسونه والفرق الذي يُلاحظ عليهم هو الفوز بجوائز نوبل أكثر من غيرهم. أما ربط الأمرين بعضهما ببعض فهو فقط من باب المزاح والتفاخر. لكن ردة فعل هيتشنز على ما سبق هي ما يهمنا هنا، لأنها تنضح بكلمة (pretentious) من كل وجه نظرنا إليها به، فقد بدأ بالرد على الحاخام بقوله: لا أجد أن التشويه القسري لأعضاء الأطفال التناسلية موضوع مناسب للمزاح على هذا النحو.. إلى أن قال بانفعال بلغ الحد الأقصى من الافتعال والابتذال: أن يجلس شخص إنساني مثلك هنا معتقداً أن هذا موضوع يناسب المزاح يوضح ما أقصده؛ الدين يجعل الناس العاديين أخلاقيّاً يقولون ويفعلون أموراً مقرفة ومجنونة وأنت أثبت وجهة نظري الآن.. من العار عليك أن تقول ما قلته الآن.. من العار عليك أن تقول ذلك عن ابنك؛ يا إلهي!
أولاً: يا إلهي؟! ثانياً: ألم يكن الحاخام رفيق مزاحه قبل ذلك بقليل؟ لماذا لم يشعر هيتشنز بذلك القرف مباشرة وينفعل فوراً بعد تعليق الحاخام (المقرف)؟! أليس للملاحدة أعين وعقول ليروا ويفهموا أن بطلهم ما هو إلا حرباء تتلون وتتشكل حسب الموقف الذي توضع فيه؛ وأن التأثير على الجمهور الحاضر أيّاً كانت الطريقة هو همه الأول والأخير؟ الجمهور الذي لا يتكلم دون أن يتوجه بنظره إليه سواء كان في مناظرة أو مقابلة أو محاضرة، تماماً كما في هذه المناظرة التي خرج منها هيتشنز دون أن يحوّل نظره تقريباً طوال مدتها نحو الحاخام أو القس أو حتى مديرة ذلك الحوار العقيم؟
من طرائف ذلك الحوار أن الحاخام وبعد أن حاول الرد على هجوم هيتشنز بشكل هزيل؛ خرج بشكل مفاجئ عن الموضوع بسؤال هيتشنز: لقد مررتُ في كتابك على عبارة ذكرت فيها أن اليهود الأرثوذكس [الأكثر تديناً] يمارسون الجنس من خلال ثقب في غطاء السرير فهل تعرف يهوداً أرثوذكساً أخبروك بأنهم يفعلون ذلك؟ فأجاب هيتشنز بإجابة لا يرى عيبها ملحد: لا، لا، لا، لا، أنا أقول إنه يُقال عن اليهود الأرثوذكس بأنهم قد يفعلون ذلك! ثم قال صراحة بعد فترة صمت مريبة: تلك إشاعة من اليهود الإصلاحيين في حق اليهود التقليديين!! طبعاً هذا الكلام يعني: سمعت إشاعة فكتبتها.. وذلك أمر عجيب بلا شك، ولكن لطافة هيتشنز المفاجئة في الرد بالإضافة إلى فترة صمته تلك حملتني (قسراً وقهراً) على أن أعود إلى كتابه الكريه ذي العنوان الأبله (الإله ليس عظيماً) حتى أتحقق من حقيقة ما قال؛ فكانت النتيجة وللمفاجأة: لقد كذب هيتشنز! ولكن بشكل مختلف قليلاً هذه المرة.. فقد ذكر في كتابه صراحة في صفحة 54 - من النسخة الإنجليزية بالطبع - أن اليهود الأرثوذكس يفعلون ذلك على شكل تقرير؛ لم يذكر الأمر على أنه إشاعة ولم يستخدم كلمة (يُقال)، بل ذكر ذلك ثم أضاف أن اليهود (يُعرّضون) نساءهم إلى طقوس استحمام لأجل التطهر من نجس الحيض.. وهذا هو النص بالإنجليزية: (Orthodox Jews conduct congress by means of a hole in the sheet، and subject their women to ritual baths to cleanse the stain of menstruation).
لو دقق القارئ في هذا الموقف لعرف أن هيتشنز كذب على تلك الطائفة بشكل كامل في كتابه البغيض لكنه كذب نصف كذبة فقط على الحاخام في ذلك اللقاء؛ لأنه قال في إجابته: أنا (أقول) إنه يُقال، ولم يقل: أنا (قلت)، مما قد يعني: قلتُ بذلك كذباً في كتابي لكنني أقول الآن بغير ذلك. ومعلوم أن تصحيح الخطأ أو على الأقل الاعتذار عنه ليسا من أخلاقه، ولعل هيتشنز ممن يؤمنون بمقولة: ليس عيباً أن يُخطئ الإنسان إنما العيب هو أن يعترف المرء بخطئه. -------------------