إرازموس داروين ومعبد الطبيعة...

 إرازموس داروين ومعبد الطبيعة...
(من كتاب معبد داروين : صفحات من التاريخ المنسي لأفكار داروين - خالد بن عبد الرحمن الشايع - مركز دلائل - الطبعة الأولى 1437هـ/2016م)

في ليلة الأحد التي أصبح القمر فيها بدراً، انعقد الاجتماع المعتاد الذي قام عليه الدكتور إرازموس داروين والذي أسموه (فلاسفة برمنجهام). حيث دفعت إرازموس داروين (وهو جد تشارلز داروين) اهتماماته العلمية في الفلك والجيولوجيا والكهرباء وغيرها إلى البحث عمن يشاطرونه هذا الاهتمام. فنتج عن ذلك اجتماع فلاسفة برمنجهام الذي أصبح يعرف فيما بعد بالجمعية القمرية لاجتماعهم في بيت أحدهم عند اكتمال القمر. دارت النقاشات في تلك الاجتماعات حول أمور علمية شتى وضمت أصحاب مصانع وأموال وبعض المهتمين من أطياف المجتمع.

نقاشات المجموعة حول العلم: كيف يمكن؟ وما الذي يمكن عمله؟ في حين كانت اهتمامات إرازموس حول الماضي أكثر: كيف وأين بدأت الحياة؟ وكيف ظهرت الأنواع؟
ذات يوم وصل إلى إرازموس صندوق مليء بالعظام والأحافير. وكان المرسل هو صديقه في المجتمع القمري جوزيه ودجود. كان عمال ودجود يحفرون حين عثروا على هذه الأحافير. شدت تلك الأحافير انتباه إرازموس ولم يطق صبراً فعزم على الذهاب إلى مصدرها ليراها على الطبيعة.

انطلق إرازموس داروين مع ثلاثة من أصدقائه إلى تلك الكهوف يقودهم بعض الحذاق في مداخلها ومخارجها. ظل إرازموس يطرح أسئلته حيال ما يرى، ثم فجأة انقطعت أسئلته وساد الصمت على المكان حين رأى الكائنات المتحجرة داخل طبقات الصخور كما هو حال صاحبه جون وايزهرست الذي تأثر بكتابات بوفون في تاريخه الطبيعي. فالكائنات البحرية الدقيقة المتناثرة في طبقات الأرض المختلفة ربما كانت هي أصل الحياة ونشأتها.

كان إرازموس في منتصف الثلاثينات يعمل طبيباً. طويل سمين يعاني من تأتأة. كان مثل باقي الطبقة المتعلمة في ذلك الوقت تشكل الأحافير محور اهتمامهم. بل تعداهم إلى العامة حتى إنك لتجدها في الكنائس والبيوت والدكاكين ولا يكاد يخلو منها مكان.
كتب إرازموس داروين إلى صديقه ودجود بعد عودته وكيف أنه شاهد آلهة المعادن عارية في بيتها، وقد وضعت رسومات ومقاسات عن قداستها. عباراته تلك لم تكن اعتباطية بل هي بذور لما سيأتي لاحقاً. فالرجل كما هو حال بعضهم آمن بشيء ثم بحث لإيمانه عما يدعمه ولو كان بصيصاً من نور.

ذكاء إرازموس لم يقتصر على الملاحظة فقط بل كان مخترعاً. ومن ذلك ما قام به من تحسينات على عربته التي كانت تمر بطرق وعرة للوصول إلى مَرضاه. إرازموس جعل منها مكتباً متنقلاً ثم أعاد تصميم بعض أجزاءها لتكون أكثر ليونة أثناء السير. في يوليو 1768م أصيب بحادث ألزمه الفراش لأسابيع، وهذه الفترة كانت فرصته ليرتب أفكاره ويضعها في كتاب يجيب عن تساؤلات العقل والروح والطب، والأهم "أصل الحياة وتطورها" ولعل زيارته للكهوف في Tray Cliff أوقدت عنده هذه الرغبة.

الاجتماعات التي قضاها إرازموس داروين مع صُحبته أثارت كل الأسئلة بلا حدود، ولم يكن هناك نقاش ممنوع حول أي شيء، لكن النقاش المغلق شيء ونشر كتاب على الناس فيه نقاشات مثل تلك شيء أخر تماماً. الكتاب الذي سماه: (زونوميا، أو قوانين الحياة العضوية) Zoonomia or the laws of organic life ، قد يعد هرطقة وكفراً عند الناس!

في 1768م أرسل إرازموس داروين أجزاء من الكتاب التي تدور حولها إشكالات مخالفة للدين إلى صديقه ريتشارد قيفورد Richard Gifford القس والفليسوف المفوه الذي أولى اهتماماً للعلاقة بين العقل والروح والجسد. كان رد قيفورد على إرازموس أن لا يرى نشر هذا الكلام. ورغم أن إرازموس أجابه أنه لا يريد من ذلك معارضة النصرانية، إلا أنه استقر على أن ألا ينشر تلك الورقات "...وكيف أفعل وقد علمت أن لها أثراً سيئاً على أخلاق الرجال".

لم يتجرأ إرازموس داروين على نشر كتابه وقتها، لكن الفكرة التي شغلت باله أراد لها الخروج ولو بطريقة غير مباشرة، فكان أن وضعها على شعار العائلة وهو الصَّدَفة، حيث كتب عليها كل شيء من الأصداف.

كانت الصَّدَفة على باب عربته ظاهرة للجميع، ولم يكتف بذلك بل صنع منها ختماً لرسائله بالرغم من أن العبارة لم تكن واضحة الدلالة، إلا أن جاره القس فهم مغزاها وكتب قصيدة تسخر منه ولم يذيلها باسمه. شعر إرازموس بالخطر حيث أن سمعته تؤثر مباشرة على عمله كطبيب، فالناس لا تثق بطبيب يحمل مثل هذه الأفكار.

اجتمعت على إرازموس داروين أفكار أثقلت رأسه مع زوجة تعاني أمراضاً استعصت عليه. وزاد الأمر سوءاً استعمالها الأفيون الذي أدى في النهاية إلى التأثير على عقلها حتى باتت ترى أن هناك من يريد قتل أولادها فتصيح به: "لا تقتلهم كلهم! اترك لي واحداَ"! ماتت زوجة إرازموس في تلك السنة.

تراجع إرازموس بعد وفاة زوجته عن جرأته في طرح أفكاره خوفاً على مهنته. فأزال الشعار عن باب عربته وانصرف لتربية أبنائه الثلاثة الذين خلفتهم زوجه الراحلة: تشارلز – إرازموس – روبرت.

ولكن مغامرات إرازموس داروين لم تنقطع بعد وفاة زوجته ولم تتوقف عنه أفكاره الغريبة، لكنها وصلت إلى علاقة غير شرعية مع مربية أبنائه ماري باركر وهي ابنة سبعة عشر عاماً. فأنجبت منه ماري ابنتين قبل أن تنفصل عنه وتتركهما له.

كل من كان يعرف إرازموس من أصدقائه الذين يحملون أفكاراً مشابهة لأفكاره كانوا مترددين في نشرها، ومن ضمن هؤلاء جيمس هوتن (والذي تم نفيه سابقاً بسبب علاقات غير شرعية!)(1) فكان متردداً في نشر أفكاره وآثر أن ينتظر حتى تكمل الرؤية عنده ويجمع المزيد من الأدلة. كان إرازموس وهوتن ربوبيان يؤمنان بخالق خلق العالم ثم تركه، وإن كان هوتن يختلف مع إرازموس في تغير الأنواع وإن اتفقنا أن الأرض أقدم مما تصوره الكنيسة.

يتضح من بعض رسائل إرازموس داروين أن الحسرة تملاً قلبه على عدم نشره الكتاب والفكرة تراوده بين الفينة والأخرى(2). لكن ضغط المجتمع ومستقبله العملي جعلاه يعيد النظر مراراً وتكراراً. وفي لحظة ما لمعت في ذهنه فكرة أن ينشر الكتاب شعراً بدلاً من نشره نثراً. ولعل الفكرة جاءته من امرأة متزوجة وقع إرازموس في غرامها وهي إليزابيت بول جارته ومريضته التي يعالجها.

كانت اهتماماتها بالحدائق والنبات والتربية توافق اهتماماته. وكانت مشاعره الجياشة تجاهها كافية لإذكاء نار الشعر بداخله. فقد ظل يرسل لها قصائد حب لم يوقعها باسمه.

في 1776م اشترى إرازموس أرضاً قريبة ليحولها إلى حديقة يجري عليها تجاربه. وربما التقى بالسيدة بول دون أن يثيرا ريبة بعيداً عن أعين الناس. وقد طرحت صديقته الشاعرة آنا سيود عليه فكرة أن بعامل البشر كالنباتات في شعره، وبهذا لن يلفت الأنظار إليه، واقترحت أن تكتب المادة العلمية ليقوم إرازموس بصياغتها شعراً، فليس من اللائق بسيدة أن تكتب عن أعضاء التكاثر في النبات كما صارحته بذلك. وآنا هذه هي ابنة جار إرازموس داروين الذي هجاه بقصيدة لم يصرح فيها باسمه كما ذكرنا.

لم تكن المهمة سهلة، فقد اضطر لترجمة الكثير من المصطلحات اللاتينية إلى الإنجليزية وحين يستعصي عليه الأمر فإنه يبتدع لها أسماءً من عنده. أربع سنوات انقضت وإرازموس يكتب ويترجم ويعدل في هذه القصيدة (حُب النباتات) Loves of The Plants ويضيف فيها تكاثر النبات وطرق تزاوجه. كما أعطى لنفسه الحرية في وضع إيحاءات جنسية في وصف النبات يفهمها من يريد. ولا زال الوقت غير مناسب لنشر كتابه الأكثر جرأة Zoonomia.

في 1779م وقعت فرنسا اتفاقية مع أمريكا ضد بريطانيا، وفي نفس العام أعلنت إسبانيا وفرنسا الحرب وهذا أثر قطعاً على فرنسي الهوى إرازموس. ومن هنا لا يعجب المرء من تلك الأفكار التي تفيء ظلالها في التطور وأصل الأنواع، فهي إيمان أولاً ثم بحث عي أي شيء يصلح أن يكون دليلاً ولو أنصاف حقائق. توترت العلاقات بين بريطانيا وفرنسا. علماء بريطانيا نظروا إلى زملائهم الفرنسيين نظر ريبة وشك، فهم يعتمدون على الحدس والافتراض وليس الحقائق الراسخة وهذا ضيق الخناق على إرازموس البريطاني في طرح أفكاره.
في 1780م مات زوج عشيقة إرازموس إليزابيت بول فتزوجها بعده وأنجبا 6 بنات في ثمان سنوات. اهتمام إرازموس انعكس على علاقته مع زوجته وأبنائهما حيث كان يأخذهم في جولات جيولوجية إلى الكهوف المجاورة، ولا زال سحر الكهوف التي رآها أول مرة حاضراً في ذهنه. فلعل تلك البرك المغمورة وسط الكهوف كانت هي بدايات الحياة. ربما كانت تلك الكائنات الدقيقة هي التي تطورت فيها الحياة؟
لا زالت قصيدة (حُب النباتات) Loves of The Plants تتشكل في ذهنه ولا زال يراوح مكانه في النشر فوضع اسمه قد يعرض حياته المهنية للخطر. أما أنا سيورد فقد حققت دخلاً طيباً من نشر قصائدها وهذا ما دفعه خطوة للأمام. فمع التزاماته العائلية ومع أبنائه وأبناء زوجته كان لا بد من اتخاذ موقف حاسم.

أرسل داروين في 1784م مسوداته إلى جوزيف جونسون وهو من المهتمين بنشر مثل هذه الكتب واشترط عليه ألا يضع اسمه تحت أي منها.

وبينما كان يعدها للنشر قرر البدء بعمل آخر وهو (اقتصاد النبات)، في جزأين غرق إرازموس في كتابة الشعر وأخذ كل وقته.
في 1788م خرج كتاب هوتن (نظرية الأرض) وأعجب به إرازموس أيما إعجاب فقد كانت معارضته للنظرة الكنسية حول عمر الأرض مبرراً –في نظره– لتعميم الفكرة على الكائنات الحية. فالأرض في نظر هوتن ليس فيها أثر بداية ولا يبدو أن لها نهاية.
نشر إرازموس داروين في 1789م (حب النبات) في نفس السنة التي اندلعت فيها الثورة الفرنسية. كان الجو مهيئاً جداً لقبولها وحسبك هذه الجملة من كتابة: "لعل كل منتجات الطبيعة في طريقها إلى كمال أعظم"؟ حيث وضعها كسؤال وبدأها بـ (لعل) فربما يخفف ذلك وطأة الكلام فلا يلاحظ معناه أحد. وفي الحاشية شرح الفكرة فربما مر هناك دون ملاحظة كذلك. تناثرت تعليقات إرازموس في الحواشي فلعل قارئاً فطناً يفهمها.
--------------------

المراجع:
(1) في عام 1747م أنجبت صديقة هوتن قبل زواجهما. وكان العرف عندهم أن يبتعد الأب لسنوات وكانت وجهته باريس.
(2) Marcy, M. (n.d.). The emperors who had no clothes: Exposing the hidden roots of the evolutionary agenda, p.50-51