الشرعة الإنسانية

 

الشرعة الإنسانية

أ. أسماء عبد الرازق ساتي

مترجمة وباحثة في قضايا الأسرة والتنمية

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

يختلف الناس في العالم في الأعراق والألوان واللغات، وفي نظرتهم لأنفسهم، وفي نظرتهم للعالم، وفي نظرتهم لبداية الخلق وغايته، وفي تصورهم للحقوق والواجبات، وفي قوتهم البدنية والعقلية والمالية والفنية وغيرها من الملكات الفطرية أو المكتسبة، لكنهم يشتركون في كونهم أناساً، ويجتمعون في كوكب واحد لا يملكون الحياة في غيره. قـرّبت المخترعات المختلفة بين أطراف الأرض حتى غدت مثل القرية الصغيرة التي يتأثر كل من عليها بأي شيء يحدث فيها.

هذا الواقع يزيد الحاجة لوجود نظام قائم على تشريع واضح يحفظ حقوق الجميع، ويبين لكل واحد ما له وما عليه. لكن هل يمكن أن يتوافق هؤلاء المختلفون على تشريع واحد يوصل لهذه الغاية ؟

يمكن أن تنشأ أنظمة جامعة يتفق عليها الناس في شؤون تنظيمية بحتة لأمور تجارية، أو مرورية، أو تدابير سلامة، بل في قواعد الحروب والتعامل مع الأسرى أو غير ذلك، وهذا مشاهد. بل إن ما يمكن أن نسميه القانون الدولي أو العرف الدولي كان يقتصر على تنظيم العلاقات القائمة على المصالح التجارية والسياسية والحربية إلى قيام عصبة الأمم في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

لكن هل يمكن أن ينشأ نظام موحد ينظم حياة الناس في مختلف الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية يتوافقون عليه، ويرضخون له طوعاً واختياراً ؟

قد يقول قائل : لم لا نبني التشريع الموحد على القاسم المشترك بين سكان الأرض ؟ والمشترك الذي يجتمع عليه كل الناس هو الإنسية. وهذا قول ذائع على صعد كثيرة، بل ينبني عليه ما يعرف بالشرعة الدولية، والقانون الدولي لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني.

إذا سلمنا جدلاً بهذه الفرضية، وتأملنا جوانبها النظرية وتطبيقاتها العملية فإننا نلاحظ الآتي :

• الإنسية

وبعضهم يسميها خطأ الإنسانية (1)- وهي ليست جوهر الإنسان، بل هي عرض من الأعراض التي يتلبس بها، فهي تدل على استقامة حياته باجتماعه بغيره من بني جنسه، وإلى ظهور جسده فلا يمكن أن يتخفى -بخلاف الجن-. ومثلها بشريته التي تدل على نقصه ووقوع الخطأ منه عمداً أو سهواً. وهذه الأحوال قد تعين المشرع على تصور احتياجات الناس، لكن تبقى في خانة العوارض التي يتفاوت فيها الناس كتفاوت ألوانهم وأعراقهم وأهوائهم ولغاتهم. فهي إذن ليست مشتركاً ينطبق على كل الناس بذات القدر، كما أنها ليست كافية لمعرفة احتياجات وقدرات الإنسان لتُحدد على أساسها الحقوق والواجبات.

• الآدمية

إذا قلنا إن الآدمية التي تدل على نسبته لآدم -بصرف النظر عن الخلاف في أصل آدم- هي المقصودة، لأن الناس كل الناس يشتركون فيها اشتراكاً تاماً، فسينشأ السؤال المهم: من هو آدم ؟ فنجدنا مضطرين للعودة لمناقشة الخلاف في : من هو آدم؟ وهو خلاف تتباين فيه معتقدات الناس وآراؤهم أشد من تباينهم في ألوانهم وأعراقهم والعوارض التي تعتريهم. فتصور الطبيعة الآدمية إذن ليست مشتركاً يتوافق عليه الناس، فلا تصلح أن تكون أساساً لتحديد حقوق وواجبات يرتضيها كل الناس.

• الحرية والمساواة

قد يقول قائل : إن الشرعة الدولية حلت هذه المشكلة بجعل مدار الحقوق على الحرية والمساواة؛ فكفلت لهؤلاء المتباينين الحق في اختيار ما يناسب رؤاهم وساوت بينهم في الحق في حرية الاختيار، فليس لرأي على رأي فضلاً. حسناً، لكن هذا يقتضي نظرياً أنها لا تنص على أي حق ولا واجب، وهذا مخالف للواقع. ومن ناحية أخرى فإن جعل الإنسان هو المرجع في تحديد الحق والواجب، والصواب والخطأ مطلقاً - ولو لنفسه وحده - هو في الحقيقة انحياز لرأي معين ضمن الآراء المتعارضة، وهذا مناف لمبدأ المساواة. فالشرعة الدولية إذن لم تحل المشكلة بل صاغت رأياً واحداً (2)، كان موجوداً قبلها، والفرق الذي أحدثته أنه نقل بعد صياغتها من المحلية إلى العالمية، ليتناسب تمدده عكسيا مع (الحق في الاختلاف) الذي تدور حوله المواد الأربع الأولى في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي العهدين الدوليين.

• الحقوق والواجبات

قد يقول قائل : لم لا نحصر الآراء المختلفة المتعلقة بماهية الإنسان، ثم يُـدعى أنصار كل فئة في كل بلد للتوافق على الحقوق والواجبات بناء على معتقدهم على أن يتجاوزوا الخلافات غير المؤثرة، ثم نطبق مبدأي الحرية والمساواة بين هذه المجموعات. قد يمكن تصور تطبيق مثل هذا المقترح في مجتمعات لا سلطوية، وهذا يقتضي فرض نظام سياسي لا سلطوي، وهذا يتعارض مع مجموعات يدخل في صميم معتقداتها الخضوع لسلطة تنظم العلاقات الجماعية وفق لوائح محددة، وهذا يقتضي إما إلغاء الفكرة أو فرض اللاسلطوية على كل المجموعات فينتقض مبدأي الحرية والمساواة. هذا إذا أغفلنا آثار هذا المقترح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتقنية وغيرها.

لا يمكن تصور قيام منظومة حقوقية أو عدلية في أي بقعة من الأرض دون تحديد العلاقة بين الإله، والكون، والإنسان.

فالإيمان بوجود إله يضيف بعداً غيبياً، ومصادر تشريعية عليا، ويجعل الكون والإنسان خاضعين لإرادته الكونية والشرعية. ويضيف بعداً أخروياً يؤثر كذلك على القيام بالحق أو طلبه.

تختلف الأديان اختلافا كبيرا لاسيما فيما يتعلق بالخضوع للتشريع الإلهي، فكما يؤمن بعضهم بأن غاية وجود الإنسان هي الاحتكام لشرع الله، وأن الله جل وعلا له الخلق والأمر، كذلك يؤمن بعضهم بالله، وبأن تشريعه حق، لكن يؤمنون كذلك بأن ملكوته في السماء، وأن التشريع ينفذ في زمان بعينه، فيحتكمون للقانون الوضعي وهم يتطلعون لحلول زمان المخلص. وقد يؤمن بعضهم بأن الغاية من الحياة هي الانصراف عن الدنيا والانقطاع عن الناس لتسمو أرواحهم ويكتب لها الخلود. وهذه الاختلافات كذلك تؤثر تأثيراً جوهرياً في النظام العدلي الذي ينبني على كل تصور، فلا يتصور أن ينشأ نظام موحد بينها يوافق هذه المعتقدات في آن.

والإيمان بقوة الطبيعة يجعل الإنسان مجرد عنصر في سلسلة من سلاسل تصنيف الكائنات الموجودة في الكون، ويجعل الإله وهماً فرضته الطبيعة على الإنسان يفر إليه كلما غلبته الطبيعة بقواها. فتكون المادة هي القيمة العليا، والصراع هو السبيل الوحيد لانتزاع الحق. ويجعل الكلمة العليا للطبيعة على حساب حياة الإنسان نفسه. ولعل أوضح مثال على هؤلاء : المؤمنون بالداروينية الاجتماعية وبحماية أمنا الأرض من القنبلة السكانية.

والإيمان بمركزية الإنسان، يحوِّل الإله لتمثال يشبه الإنسان شكلا، ويسبغ عليه من طباع الإنسان وأخلاقه، ويجعله مجرد مادة أدبية أو فنية تعكس إبداع الإنسان وحذاقته، أو ينكر وجوده كليا ويدخله في إطار دراسات الميثولوجيا وفنونها، ويجعل قهر الطبيعة غاية الحياة وعمادها. وأول من نحى هذا المنحى الإغريق، وآخرهم ورثة حضارتهم.

خلاصة القول هي أن الشرعة الإنسانية ما هي إلا دعاية رنانة، وشعار لا وجود له في دنيا الناس، ولا يمكن أن تقوم شرعة يجتمع عليها الناس كلهم ما داموا مختلفين في الجوانب التي أشرنا إليها آنفاً، وسيبقى الناس مختلفين إلا أن يشاء ربي شيئاً.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] يراد بها أحيانا التعاطف والتراحم والتعاون وما شابهها من الصفات التي تشير إلى حب الخير للآخرين.

[2] في الحقيقة نقل ما فيها نقلا من الوثيقة الكبرى البريطانية وإعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي وإعلان الاستقلال الأمريكي. ولجنة حقوق الإنسان التي كانت ترأسها إليانور روزفلت لم تضم فعليا إلا ممثلين للفكر الليبرالي وممثلا للكونفوشيوسية ومع ذلك لم تتمكن من الشروع في العمل إلا بعد أن أحيلت مهمة وضع المسودة للقانوني الكندي جون همفري، ثم أرسلت للقانوني الفرنسي رينيه كاسان لاختصارها، ثم عرضت للمناقشة على 51 دولة، واحدة من الدول العربية و8 دول اشتراكية و42 دولة ليبرالية ثم صوت عليها وفازت بأغلبية 42 دولة، وأنعم عليها بوصف اللغة العالمية لحقوق الإنسان!