معضلة معضلة وسائل [التواصل] الاجتماعي
أ. الغازي محمد
مهتم بالفكر والاقتصاد
t.me/alghazi_m
«يُقال ويفترض دائمًا أنه وفي اقتصاد يقوم على الشركات والملكية الفردية يكون هناك دائمًا تحيّز تلقائي تجاه الابتكار، وهو غير صحيح، هناك فقط تحيّز دائم، ووحيد، تجاه الربح»
- إريك هوبزباوم.
بدايةً هذا العنوان ليس غلطة كتابية، تكررت كلمة معضلة مرتين، وهاك القصة: شاهدت الفيلم الوثائقي The Social Dilemma، الذي يستضيف عددًا من روّاد التقنية "التائبين" - إن صحّ التعبير - وعددًا من أساتذة الجامعة والكتّاب والمراقبين التقنيين وممثلي حقوق الإنسان ..إلخ، للحديث عن المخاطر الكبرى التي تضعنا تحت طائلتها خوارزميات عمالقة التكنولوجيا وكبار شركات السيليكون-فالي، وبطبيعة الحال إذا كنت حاضرًا معنا في عالمنا خلال آخر السنوات ولست منعزلًا في كهف أو في الغابة (بالمناسبة إن كنت منعزلًا في كهف أو في الغابة فهنيئًا لك، عالمنا ليس مكانًا جميلًا لتشهده بالمرّة هذه الأيام)، فستكون قد سمعت مرّة واحدة على الأقل عن مخاطر شبكات التواصل الاجتماعي والحالة التي تخلّفها على أنفسنا وعقولنا، بدءًا من الاكتئاب وانتهاءً بالإدمان، وهذا ليس موضوع هذه التدوينة، لكن دعني ألخّص لك الأمر، وجد أن هناك علاقة كبيرة بين شبكات التواصل وبين معدلات إيذاء النفس ومحاولات الانتحار، ووجد كذلك أن هناك علاقة بين ارتفاع معدلات "الانعزال الاجتماعي" وبين معدلات استهلاك وسائل (التواصل) الاجتماعي، كما وُجد أن هذه الوسائل تقلل جدًا من عمر "دورة الانتباه" التي يجدها الشخص من نفسه، ووجدت علاقة بين انخفاض الصحة النفسية والعقلية والشعور بالرضا عن الذات وبين الاستهلاك العالي لمواقع التواصل الاجتماعي، ووجدت كذلك مكونّات إدمانية حادّة مرتبطة بالسلوك الذي يعززّه تصميم واجهة هذه المواقع وطريقة عمل خوارزمياتها، ووجدت أضرار على دماغ المراهقين ونمو الأطفال الطبيعي بسبب استخدام الشاشات، ووجد الكثير والكثير والكثير من الأضرار التي يمكنك تتبعها في غير هذا الموضع والتي تمتلئ بها وثائقيات وكتب عدّة .
ما يهمني، وهو موضوع هذه التدوينة، هو فحص الطريقة التي يختبر بها الناس هذه الحقائق، وكيف تحكم خيالهم تصوّرات معينة عن متوالية الأسباب التي شكلّت واقعًا مظلمًا كهذا نخاف على أنفسنا وأبنائنا وأجيالنا القادمة منه، أي أنني مهتم أكثر بفحص "الخطاب" المتعلق بمخاطر الوسائل التكنولوجية المختلفة، خاصة تلك المرتبطة بوسائل التواصل الاجتماعي، ومن ثمّ بيان المشكلة التي أراها مانعة - في نظري - من أن نصلّ إلى حل بخصوص هذه المشكلة وما يتعلّق بها، وهدفي من هذه التدوينة، هو توضيح أن عوامل "بنيوية" تفوق بكثير ما نظنّه مشكلة مخصوصة بوسائل التواصل وشركات التقنية، هذه العوامل تحكم سياقًا أوسع بكثير جدًا من سياق "معضلة وسائل التواصل الاجتماعي" ولهذا كان عنوان هذه التدوينة: معضلة معضلة وسائل التواصل الاجتماعي، والسؤال المركزي هنا هو: ما الذي يجعل معضلات كهذه ممكنة في الواقع الاجتماعي أصلًا؟
كلنا يعلم أن هناك مشكلة ما - سأفترض هذا - ، وأن وسائل التواصل تنتج أنماطًا من الاضطرابات والسلوكيات غير المحمودة، لكن المشكلة تكمن عندما نفكّر في أسباب المشكلة أولًا، ثم عندما نفكّر في الحلول ثانيًا وبالتبع، عندما نتكلم عن مشكلة نحن نتكلم عن مشكلة "داخل" وسائل التواصل و"في" شركات التقنية، شيئًا يجعلها تبدو كشذوذ عن نسق مفترض، كخرق لنظام متوقع، كناتج غير مرغوب لعملية حميدة في الأساس، لا أدلّ على ذلك من كلام عمالقة التقنية التائبين هؤلاء عن أنها في الأساس كانت بهدف "خيّر" وأنها وسائل "قوية" و"فعّالة" لكنها فقط كانت قوية للغاية إلى درجة جعلتها تخرج عن السيطرة، لكن هل هذا صحيح بالفعل؟ هل التكنولوجيا حقا أداة في الأصل محايدة لكنها تتعرض فقط "لسوء استخدام"؟ وهل الشركات الكبرى بشكل عام يمكن أن تجد نفسها في محل آخر غير محل المستغل الشرير هذا؟ هذا ما أحاول معالجته باختصار شديد فيما يلي.
- قطعة إضافية من التقدم من فضلك!
ماذا يحدث عندما نفكّر في "التكنولوجيا"؟، يحتل مخيالنا في العصور الحديثة ارتباط وثيق بين "التكنولوجيا" و"الابتكار"، وينظر للابتكار بوصفه "فضيلة" مطلقة، أي أنه الطريقة التي يحدث بها "التقدّم" وبالتالي يُنظر للمبتكرين بوصفهم أبطال العصر الحديث، بل ويتمّ تجسيد "المخترع العبقري" بوصفه بطل العالم، سواء في الخيال، حيث Iron Man، أو في الحقيقة حيث الرجل الذي سافر إلى المستقبل بالفعل Elon mask!، وبالتالي عندما "تنحرف" التكنولوجيا، نجد أنفسنا مستغربين من هذا الحدث الشاذ عن طبيعة هذه الوسيلة، أليس كذلك؟
ماذا إذًا لو كانت التكنولوجيا ليست إلا فلسفة أخلاقية تقدّس قيمًا مُعينة؟، كما يقول بول جودمان: «سواء نتجت التكنولوجيا عن كشف علمي جديد أو لا، فإنها تمثّل فلسفة أخلاقية أكثر بكثير مما تمثّل العلم [الطبيعي]» ، وماذا إذاً إذا كانت عملية "الابتكار" ليست عملية طبيعية وإنما تعبير عن بنية أعقد، وعن "هدف أخلاقي" أكبر؟
قد تتسائل الآن: ما هذه الأسئلة (الغريبة)؟، ولماذا هي مهمة أساسًا في وضع يتعلق بـ(مشاكل) وسائل التواصل الاجتماعي؟
والجواب هو: إذا فهمنا "هدف" و"طريقة عمل التكنولوجيا" ألا يحتمل أن يقودنا هذا الفهم إلى إدراك طبيعة المشاكل التي قد تنتجها؟
في الوثائقي أعلاه ذكر غير ما واحد من التقنيين "التائبين" أن "التعطّش للربح" هو الذي قاد هذه الشركات إلى تطوير خورازميات تجعل الأفراد واقعين في إدمانها ومتحيّزين لآرائهم ويسعون نحو "اللايك" وهكذا.. باختصار، ما يشيرون إليه هو "الرأسمالية" - دون أن يذكروا اسمها! - ، أي الرغبة الدائمة في زيادة الأرباح وتوالدها اللانهائي باعتباره الهدف الأسمى لأي شركة عاملة في السوق، والسؤال هو: هل الداء أن الرأسمالية هي السبب في انحراف مسيرة "الإبداع" و"التكنولوجيا" و"التقدم" أم أن الرأسمالية هي صانعتهم بالأساس؟ بمعنى آخر: هل هذه (الانحرافات) هي انحرافات بالفعل؟ أما أنها كامنة في جذور النظام من أصله بحيث أنه لو لم يكن هناك فيسبوك ولا جوجل فستكون هناك أخريات تفعل الشيء نفسه؟
يجيبنا عالم الاجتماع المرموق "إيمانويل فالرشتاين" قائلًا: «أخلص هنا إلى نتيجة واضحة جدًا، هي أن عليك أن تمرّ أولًا بالمرحلة الرأسمالية قبل أن يصبح الابتكار التكنولوجي عنصرًا مركزيا، وليس العكس، وذلك أمر مهمّ لأنه مؤشر على واقع علاقات السلطة والقوّة، إن العلم الحديث هو وليد الرأسمالية، وقد درج على الاعتماد عليها، وقد حظي العلماء بالمباركة والدعم الاجتماعيين لأنهم عرضوا بوادر تحسينات ملموسة في المستقبل في العالم الواقعي، باستحداث الآليات المدهشة التي ستعزز الإنتاجية وتخفّف القيود التي يفرضها الزمان والمكان وتحقق المزيد من الراحة للجميع، وقد نجح العلم في ذلك.
لقد طُورت نظرة شاملة للعالم لتكتنف هذا النشاط العلمي، وطلب من العلماء، بل أوعز لهم بأن يتوخوا "النزاهة" والحياد، أي أن يكونوا إمبريقيين تجريبيين، لقد طولبوا وأوعز لهم بأن يبحثوا عن الحقائق "الكلية" الكونية، وأن يكتشفوا ما هو "بسيط"، لقد أمروا بتحليل الوقائع المعقدة المركبة وكشف النقاب عن القواعد البسيطة، بل الأبسط التي تتحكم بها، وأخيرًا وربما كان الأمر الأكثر أهمية، طولب العلماء، وأوعز لهم، بأن يتبينوا المسببات الفعالة وليس الأسباب النهائية، ويضاف إلى ذلك إيعاز بالنظر إلى هذه التوصيفات والملاحق برمتها باعتبارها حزمة واحدة لا تتجزأ!»
من هنا نجد ما يلي:
أولًا: أن النموذج الذي هو سبب "الخلل" كما يتحدّث التقنيون التائبون، أي "البحث عن الربح" (الرأسمالية) ليس إلا "قاعدة" الأمر وأساسه، فلا يمكن أصلًا أن تتحول التقنية إلى هذه المكانة المركزية في مجتمع ما، إلّا إذا طوّر هذا المجتمع نفسه وسائل تجعل الابتكار والاستكثار من الأشياء هو مشروعه الأساسي، أي ببساطة إذا طوّر رأسمالية.
ثانيًا: أن العلم، أي الوسيلة التي تنتج التكنولوجيا، قد ولد ليكون "خادمًا" لا أكثر، أي قد ولد ليفكّر فقط في عالم الأشياء دون التفكّير في أي "عواقب" أو أشياء "مرّكبة" تستتبع هذا الاكتشاف "الإمبريقي" وبالتالي نجد أنفسنا أمام مخترع عبقري يخترع لنا قنبلة!، في ماذا سنستخدمها؟ من يهتم؟!
هذه الخدمة التي يؤكد عليها ريتشارد لوينتون قائلًا: «العلم -كغيره من الممارسات المنتجة (كالدولة والعائلة والرياضة)- مرتبط بغيره من المؤسسات الاجتماعيّة، ويتأثّر بها، فالمشكلات التي يتعاطى العلم معها والأفكار التي يستخدمها لتتبع تلك المشكلات، بل حتى ما تُسمى بالنتائج العلميّة التي ينتجها التقصّي العلمي، كل ذلك يتأثر بشدّة بالأحكام المسبقة المأخوذة من المجتمع الذي نعيش فيه. لا يكون العلماء منذ بداية حياتهم علماء طبعا، بل يكونون أولاً كائنات اجتماعيّة منغمسة في الأسرة وفي الدولة وفي بُنية الإنتاج، وهم بالتالي ينظرون للعالم بالعدسة التي صاغتها تجربتهم الاجتماعيّة.
إضافة إلى تلك التحيّزات الشخصية، فالعلم أيضا يصوغه المجتمع لأنه نشاط إنتاجي إنساني يتطلّب وقتا ومالا وتحكمه (لأجل ذلك) ذات القوى التي تتحكم بالمال والوقت في العالم. يستغل العلم السلع، وهو في الوقت ذاته جزء من عملية إنتاج تلك السلع. كما يستغل العلم المال، إذ يكسب الناس قوت يومهم منه، ولأجل ذلك فالقوى الاجتماعيّة والاقتصاديّة المهيمنة تتحكم إلى حد بعيد بما يفعله العلم، وبكيفيّته. علاوة على ذلك، تأخذ تلك القوى من العلم الأفكار التي تتناسب خصّيصا مع استمرارية البُنى الاجتماعيّة التي ترعاها تلك القوى، وتجعلها مشروعَةً وطبيعيّة. تلك العملية مزدوجة: فالعوامل الاجتماعيّة أولا تتحكم بما يفعله العلماء ويقولونه، ثم تستغل ما يفعله العلماء ويقولونه لتدعيم مؤسسات المجتمع، وهذا ما نقصده عندما نتحدث عن العلم حين يكون أيديولوجيا."
وإذاً، ما أريد الوصول إليه هنا هو أننا عندما نتكلم عن مشاكل نتجت عن "التكنولوجيا" فإنه من الخطأ البيّن أن نعتبر التكنولوجيا، وشركات التقنية، هي نبت شيطاني في بيئة صالحة ورائعة وجميلة وأنها "انحرفت"، بل هي في الأساس تخدم هدفها الذي نشأت من أجله!.
لذا إذا كنت تريد التخلّص من مشكلات التقنية، فأول واجب عليك أن تتخلص أولًا من تقديسك الأعمى لقيمة التقدم والابتكار، واعتبارهما منتهى أمل البشر وغاية وجودهم على الأرض، علينا أن نتخلص من الخطابات التي تعتبر أن "جعل حياتنا أسهل" هو المعادل الموضوعي لقيمة "الخير الأسمى"، لأننا ندفع تكلفة ذلك غاليًا عندما نعتقد أن هذه "السهولة" تأتي بلا تكلفة وأن "المؤسسات" التي تقوم على إنتاج هذه "السهولة" تنتجها لأنها تهتم لأمرنا حقًا!، ولهذا صدّرت هذه المقالة بمقولة هوبزباوم التي قرأتها أعلاه.
هذه في نظري هي المشكلة الأولى عندما نتكلم عن الحلول، فالحل لا يكون إلا بتغيير النموذج، الإطار المرجعي الحاكم لحياتنا وتصوراتنا وأفكارنا عن التقنية والابتكار ونقائها المفترض وحيادها المتوهم، هذا هو الحل إذا غيّرناه لا بتشريعات ولا بتنظيم حكومي ولا بـ"استصلاح" هذه التقنيات، فمكمن الفساد في النظام برمّته، وهو الذي ينتج هذه التناقضات، لا في التقنية وحدها، بل في شركات الأدوية، ونظم الرعاية الصحية التي عندما تهدف للربح تفضّل موت بعض البشر على مساعدتهم، ونظم التعليم التي تقوم بإعدادك لتكون جنديًا مخلصًا في سوق العمل وعاملًا مجدًا في عجلة الإنتاج الأبدية، وهي نفسها التقنية التي تنتج لك ما تستهلكه طول الوقت وتبقيك «مستثارًا، حدّ الموت» ، فهي في الحقيقة "مقولة أيدولوجية" كاملة و"نظام" ينبنى على بعضه بعضًا، عندما نحاول أن نحل مشكلة "فيسبوك" دون أن نحلّ مشكلة "الرأسمالية" فنحن نركّز على العَرَض وننسى أصل المرض! وأخفّ من بعض الدواء الداء!
لا يمكننا الجمع بين اعتبار زوكربيرج وإيلون ماسك وستيف جوبز وبيل جيتس قادة للبشرية ومثالًا للمجتمعات، ونموذجًا للناجحين، في نفس الوقت الذي نشتكي فيه من مخاطر التقنية، كما لا يمكننا أيضًا أن نشتكي من مخاطر التكنولوجيا في نفس اللحظة التي نطلب فيها مزيدًا من "الترفيه" والمتع الاستهلاكية، فهذه الأشياء كلها ليست منفصلة!، كلها نواتج لنفس النظام، وتخضع لنفس المنطق، وتقدّم نفس الرؤية الكلية للعالم!
- لعنة العمالقة
من الأمور الأخرى التي تتكرر كثيرًا في حديث الناس عن المشكلة هو أن هذه الشركات "تضخّمت"، أو تعملقت بشكل ما، ويتم الحديث عن هذه العملقة بوصفها "خللًا" في نظام (يفترض) أنه لا ينتج مثل هذه "الانحرافات" ومرّة أخرى، ليس هذا انحرافًا بل هو كامن في عمق النظام، ففي نظام من "السوق الحرة" التي لا تدخّل فيها لأي يد عليا، دائمًا ما سينتهي الأمر بعدد محدود جدًا من الشركات ضمن الصناعة الواحدة فيما يعرف باسم "احتكار القلة"، وهذا تحديدًا، العامل الحاسم فيه هو التكنولوجيا، فكلما كانت "التكنولوجيا" ممثلة بشكل أكبر في رأس المال، كلما كان هذا السوق نفسه خاضعًا لهذه الظاهرة، أي المنافسة الاحتكارية، بين عدد صغير جدًا من الشركات ، وهذا ما دفع عضو المحكمة العليا الأمريكية "لويس براندس" قبل أكثر من مائة عام، لتشريع قوانين "مكافحة الاحتكار" لمحاربة ما سمّاه "لعنة الضخامة curse of bigness" وما زالت الشركات الكبرى منذ فجر الرأسمالية الحديثة تكتسب قوة ضخمة للتحكم في حياة الناس وصياغة حياتهم الاجتماعية والسياسية، من لدن فورد إلى فيسبوك، فهذه الوضعية ليست "انحرافًا" - مرة أخرى - عن نظام كان يفترض له أن يكون "خيّرًا"، هذه مشاكل بنيوية، كامنة في عمق النظام وليس شيئًا عارضًا.
ما الذي يجعل قوانين محاربة الاحتكار غير قابلة للتطبيق في عالمنا اليوم؟، الإجابة هي: "العولمة"، وعندما أتحدث عن العولمة، فأنا أتحدث بالتأكيد عن عولمة رأس المال، أي النسخة النيوليبرالية من العولمة، التي لم يحدث غيرها في الواقع، تلك التي تجعل حرية التنقل محصورة فقط برأس المال، رأس المال "السائل" كما يسميه "زيجمونت باومان"، والتي جعلت الشركات في موقع أكبر بكثير وأكثر قوة ونفوذًا من أقوى دولة في العالم، فالحكومات اليوم تقف عاجزة أمام هذا الجيش القوي الذي يمكنه دون أي غضاضة نقل أمواله وعمّاله وبنية شركاته كليًا بين ليلة وضحاها دون أي غضاضة، فالسوق في الحقيقة فوق الجميع!
ولذا - مرة أخرى أيضًا - إذا أردنا أن نتحدث عن مشكلات "وسائل التواصل الاجتماعي" فلا يمكننا ذلك دون أن نتحدث عن النيوليبرالية والعولمة و"السوق الحرّة" وهكذا، ومرّة أخرى نجد أنفسنا أمام بناء أيدولوجي آخر (غير مُفكّر فيه)، مدفونًا تحت سطح المشكلة التي لا ننظر لسواها، ومرّة أخرى نجد أنفسنا أمام بنية أكبر بكثير وأعقد بكثير من مجرد عدد صغير من الشركات، فهذه ليست مشكلة وسائل التواصل الاجتماعي وحدها، هي مشكلة شركات الملابس، وشركات السيارات، وشركات الزراعة، وكل الشركات!، ولا يمكن حلّ ضخامة هذه الشركات (أي شركات التقنية) دون أن نتعامل مع المشكلة المؤسسة لهذا الوضع نفسه، أي .. ومرة أخرى .. "النظام".
- الحل المستحيل
أختم هذه التدوينة بسؤال أخير: إذا كانت كل المشكلات إذاً راجعة إلى بنية ونظام معيّن، لماذا يبدو أننا -جميعًا- عاجزون عن الحلّ؟ لماذا لا نجد في أروقة الإنترنت وداخل الكتب إلا حلولًا كلها تعود إلى الفرد، وكلها لا تتضمن - ولو حتّى على سبيل التخيّل - مستقبلًا تكون فيه هذه الكوارث غير موجودة؟ جزء من ذلك راجع إلى أننا في بنية نظنّها هي "طبيعة الأشياء" وأنها "خيّرة" بالأساس، ولا تنتج إلا "أدوات" وأن "الخطأ في المستخدم" ليس إلا، وهذا ما حاولت علاجه في السطور القليلة السابقة، والجزء الآخر راجع إلى أن الذي يفترض بهم أن يتخذّوا القرار، ليسوا موجودين بعد اليوم!، فيما يصفه "زيجمونت باومان" بأنه "انفصال السلطة عن السياسة"، قائلًا: «إننا نشعر أكثر مما نعلم (وكثير منّا يرفض الاعتراف بذلك) أن السلطة (أي القدرة على فعل الأشياء)، قد انفصلت عن السياسة (أي القدرة على تحديد الأشياء التي ينبغي فعلها وإعطاؤها الأولوية)، وهكذا فإننا نعاني ارتباكًا لأننا لا نعلم "ماذا نفعل؟"، بل لا نعلم "من سيفعل؟"، فالقوى الوحيدة للفعل الجمعي الهادف التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، إنما تنحصر بطبيعتها في حدود الأمة/الدولة، ومن ثمّ فهي غير كافية بكل وضوح، ولاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار النطاق العالمي لمشكلاتنا وأسبابها وعواقبها…»
ببساطة نحن نعيش في عالم لا يمكنه أن يمنع آلة الربح الفتّاكة من أن تتوقف، هذا إن كان راغبًا أصلًا في أن يجعلها تتوقف!، نحن نعيش في عالم "لا خلاص فيه على يد المجتمع" كما قالت تاتشر سابقًا، وبالتالي تعود دائمًا دائرة الحلول نحو "الفرد" المسكين، مع مطالبات للحكومات بتقنينات وتشريعات والذي منه، وكلنا نعلم أنها لا تصنع شيئًا، فقد صارت عادة حديثة الآن أن يستدعى ملاك كبار شركات التقنية في جلسات استماع في الكونجرس، وبينما يوبخهم بعض الأعضاء، تتزايد أرباحهم بالملايين في تلك الدقائق دون توقّف، ودون أي تغيّر حقيقي، ولا يجد الأفراد ساحة مقاومة ممكنة في النهاية إلا مساحاتهم الخاصة، التي هي بالضرورة مساحة مخترقة دائمًا بالسياق الاجتماعي والبنية الاقتصادية حولها، فلا تؤدي مقاومتهم إلى تغير في الوضع في النهاية، أو كما قال أولريش بيك: «الطريقة التي يحيا بها المرء صارت حلولًا تطرحها السيرة الذاتية للتناقضات المجتمعية، فما زال الإنتاج الاجتماعي للتناقضات والمخاطر مستمرًا ، ولم يتغير شيء سوى أن مجابهتها تقع على عاتق الأفراد»، فحتّى لو أغلق كل قراء هذا المقال حساباتهم على فيسبوك وتويتر وامتنعوا عن استخدام الهواتف الذكيّة فهذا لن يساوي شيئًا في أكثر من مليون وثلاثمائة ألف دخول على فيسبوك في الدقيقة، وقريبًا من مائتي ألف تغريدة في الدقيقة على تويتر، وقرابة الخمسة ملايين مشاهدة على يويتوب في الدقيقة، والستين مليون رسالة على واتساب في الدقيقة..
فضلًا عن أن يكون لهم يدٌ في أن يتأثر النظام الأكبر للأشياء، السعي خلف الربح المتوالد لمالانهاية، والتقديس المفرط للتكنولوجيا والابتكارات التقنية، وحماية مصالح رأس المال التي تسود الكوكب..
هذا لا يعني بالتأكيد أن "حماية أنفسنا" من هذه الأشياء بقدر الإمكان أمر قليل الأهمية أو عديم الأثر، بل هو أمر جلل، لكن إذا سألنا عن "الحل" بألف ولام التعريف، فليس هذا حلًا نهائيًا لمشكلة متجذرة في عمق نظامنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وتلك نقطة أخرى تتكرر كثيرًا في الخطابات المضادة لسيادة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي على الحياة الاجتماعية، إما بحسن قصد أو بسوء نية وتعمد، أن يقال: الحل في يدك.. نعم هذا بخصوصي، لا بخصوص المشكلة الأصلية التي يبدو أنها مستمرة في إنتاج نفسها دون توقف متوقعٍ عن قريب!
كانت هذه إذًا المعضلة، في "معضلة وسائل التواصل الاجتماعي"، حاولت فيها بيان المشكلات "الجذرية" التي تقف خلف المشكلات السطحية التي يتحدث عنها الناس عادة عندما يتم ذكر شركات التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، سواءً ما يتعلق بخيالنا وقيمنا المقدسة في العصر الحديث، أو بنظام الأشياء وطريقة عملها، أي الرأسمالية، وأرجو أن يكون ما قصدت بيانه واضحًا وفيه إفادة لعموم القارئين.
والله أعلم.