بين الكوثر والأبتر (نظرة أخرى لسورة الكوثر)

 

بين الكوثر والأبتر

(نظرة أخرى لسورة الكوثر)

د. أحمد عبد المنعم

مدرس بكلية الطب جامعة المنصورة، ومشرف على موقع (إنه القرآن) ومهتم بالقضايا القرآنية التربوية والفكرية

Twitter.com/A_Abdelmonem82

 

بذل المشركون -كعادتهم في كل زمان ومكان- جهدا عظيما ومكروا مكرا كُبّارا ليندثر هذا الدين وليطفئوا نور الله، ثمّ باءَ سعيهم بالفشل وخابت مساعيهم (وتصريحاتهم) وأخزاهم الله قديما وحديثا.

بل كانت المفاجأة أنهم وجدوا أتباعَ هذا الدين في ازدياد رغم التعذيب والشدة، ومستمسكين بدينهم رغم الضيق والفقر، وزادَهم التهديدُ إيمانا والتضييق ثباتا.

وإذا رجعنا بالزمان إلى عهد النبي ﷺ لنستبين سبيل المجرمين ونتعرف على طريقتهم في الصد عن الدين = نجد أنهم حاولوا الفتّ في عضد النبي ﷺ ومساومته ومنعه وهجاءه، ولكنه ﷺ ثبت واستمر في دعوته ولم يبال بهم.

ثم بعد يأسهم من تراجع النبي عن طريقه، وتأكدهم من ثباته ﷺ على منهجه = لم يبق لهم إلا حلّ واحد وهو الانتظار!!

فلقد قال ربنا مُبيّنا حالتهم النفسية بعد فشلهم في إثنائه عن دعوته :

﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾ الطور 30.

«يقول جلّ ثناؤه: بل يقول المشركون يا محمد لك: هو شاعر نتربص به حوادث الدهر، يكفيناه بموت أو حادثة متلفة» (الطبري).

ويبدو أن اختيارهم لهذا الانتظار الصعب على قلوبهم والثقيل على نفوسهم أنهم ظنوا أن دعوته ﷺ ستموت بموته؛ وذلك لظنهم أن اسم الإنسان يظل -كعادة الناس في الدنيا- باقيا بوجود أولاد يحملون اسمه ويفتخرون بأبيهم وينشرون أقواله وأفعاله، فلما رأوا أن كل أولاد النبي ﷺ الذكور قد ماتوا في حياته = قالوا هذا هو المَخرج مما نحن فيه، وفرحوا بذلك ورأوا فيه الأمل وقالوا: إنه أبتر.

 

فعندما كانوا يتسامرون ويفكرون كيف نُذهب غيظنا منه يصبّرون أنفسهم بهذه الكلمة، فلقد «كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له، فإذا هلك انقطع ذكره» (ابن كثير).

 

فأنزل الله هذه السورة سورة الكوثر ردًا عليهم وتصحيحًا لمفهوم (الأبتر).

فكيف عالجت السورة هذه القضية؟

تعالوا نعايش ونتدبر آيات هذه السورة.

 

نجد أن هذه السورة ثلاث آيات، كُلّ آية تعالج القضية بطريقة خاصة.

 

- (الآية الأولى) : إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)

أي أبشر يا رسول الله ﷺ فلقد أعطاك الله الخير الكثير في الدنيا والآخرة، والذي يكون منه يوم القيامة نهر الكوثر الذي «من شرب منه لم يظمأْ، عرضُه مثلُ طولِه ما بين عُمانَ إلى أَيلةَ، ماؤه أشدُّ بياضًا من اللَّبنِ وأحلى من العسلِ، وآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها» كما في صحيح مسلم.

 

ولقد سَعِد النبي ﷺ بهذه البشرى، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُبْتَسِمًا، قُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أُنْزِلَتْ عَلِيَّ آنِفًا سُورَةٌ"، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ} ثُمَّ قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ " قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدنيه رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النُّجُوم.."

لاحظ قول النبي أن عدد آنية كوثره أكثر من عدد نجوم السماء، وفي هذا إشارة وبشرى أن أتباعه سيزيدون ويكثرون كعدد نجوم السماء!!

 

فهذه الآية إذن تحدثنا عن بشرى بمَشهد غيبي مستقبلي أُخروي، مشهد مليء بالحب والألفة والسكينة والأمان يجمع بين النبي ﷺ وبين الملايين من أتباعه وأحبابه في أفضل مكان يتمناه الإنسان.

اللهم اجعلنا منهم.

 

فهل هذا "أبتر" ؟؟!!

هل من حفظ الله سنّته بعد موته وكثّرَ أتباعه وثبّتهم على دينه إلى يوم لقائه يكون "أبتر" ؟!

 

- (الآية الثانية) : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)

أي اشكر ربك على هذه النعمة الأخروية ولا تنشغل بكلامهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون، ولكن أخلص في صلاتك، وقدّم القرابين لله بذبح أغلى وأنفس الأنعام وهي الإبل.

 

والصلاة في الآية -كما قال بعض السلف- قد تُحمل على صلاة عيد الأضحى ثم ذبح النسك لله عز وجل في مشهد عظيم يحدث في يوم العيد وفي مناسك الحج.

قال ابن كثير رحمه الله بعد ذكر أقوال كثيرة في معنى (وانحر): "والصحيح القول الأول، أن المراد بالنحر ذبح المناسك; ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد ثم ينحر نسكه ويقول: "من صلى صلاتنا، ونسك نسكنا، فقد أصاب النسك. ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له".

 

وعلى هذا القول تصور لنا الآيةُ هذا المشهد المهيب الذي يجتمع فيه الآلاف حول النبي ﷺ يصلّون خلفه ويحجون معه ويشهدون ذبيحَته، الكلّ يكبّر ويهلّل في مشهد عظيم يُخيف الأعداء والمنافقين.

وتذكرنا الآية بهذه المناسك التي فعلها إبراهيم عليه السلام وجعل الله له لسان صدق في الآخرين، فكذلك افعلها يا محمد = يُبق اللهُ ذكرَك كما أبقى ذكر أبيك إبراهيم، فاللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم.

 

فهل هذا "أبتر" ؟؟!!

 

لقد ذكرت هذه السورة -للردّ على هؤلاء الحمقى الذين يطعنون في النبي صلى الله عليه وسلم- آيتين ترسم كلا منهما مشهدا عظيما يُظهر مدى انتشار دعوته وبقاء أثره ﷺ.

فالمشهد الأول يُبصّرنا بتجمع أتباعه حوله على نهر الكوثر في الآخرة، والثاني يُسمعنا صلاتهم خلفه ويُرينا التفافهم حوله يوم الحج الأكبر.

 

وبعد هذين المشهدين (في الآخرة والدنيا) تظهر الحقيقة الواضحة، ويتبيّن للجميع من هو الأبتر.

سيبقى ذكرُ النبي ﷺ في كل وقت في الدنيا والآخرة كما قال ربنا (ورفعنا لك ذكرك)، وسيزيد أتباعه بفضل الله؛ فدعوته ﷺ كشجرة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

 

وأمّا ذلك الذي يُبغض النبيَّ ﷺ ويُسيء إليه فلقد بارز الله بالمحاربة، فسوف يخسر حتما، وسوف يُهزم قطعًا، وسوف يندثر ذكره وتموت كلماته وينقرض أتباعُه، والتاريخ شاهدٌ على ما أقول (فهل تُحسُّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا)

 

- ولذلك قال الله تعالى في (الآية الثالثة) : إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3).

الشانئ هو المبغض، وهو الشنآن بمعنى العداوة، ونزلت هذه الآية على وجه الرد على من قال: إن محمدا أبتر أي لا ولد له ذكر، فإذا مات استرحنا منه وانقطع أمره بموته، فأخبر الله أن هذا الكافر هو الأبتر - وإن كان له أولاد - لأنه مبتور من رحمة الله، أي مقطوع عنها، ولأنه لا يذكر إذا ذكر إلا باللعنة بخلاف النبي ﷺ فإن ذكره خالد إلى آخر الدهر، مرفوع على المنابر والصوامع مقرون بذكر الله، والمؤمنون من زمانه إلى يوم القيامة أتباعُه، فهو كالوالد لهم (ابن جزي بتصرف يسير)

 

وقال ابن كثير رحمه الله: «وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه ينقطع ذكره، وحاشا وكلا، بل قد أبقى الله ذكره على رءوس الأشهاد، وأوجب شرعه على رقاب العباد، مستمرا على دوام الآباد، إلى يوم الحشر والمعاد صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم التناد»

 

وأختم بقول البقاعي رحمه الله:

« فالآية الأخيرة النتيجة لأن من الكوثر علو أمره وأمر محبيه وأتباعه في ملكوت السماء والأرض ونهر الجنة وسفول شأن عدوه فيهما..... وقد صدق الله ومن أصدق من الله قيلاً، لم يبق لأحد من مبغضيه ذكر بولد ولا تابع، ولا يوجد لهم شاكر ولا مادح ولا رافع..... وإذا راجعت آية: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله} [الأحزاب: 40] علمت أن توفي بنيه صلى الله عليه وسلم قبله من إعلاء قدره ومزيد تشريفه بتوحيد ذكره، وأما أتباعه فقد استولوا على أكثر الأرض وهم أولو الفرقان، والعلم الباهر والعرفان، ويؤخذ منها أن من فرغ نفسه لربه أهلك عدوه وكفاه كل واحد منهم» (نظم الدرر بتصرّف).