لودفيج فيتغنشتاين
1889 : 1951م
فيتغنشتاين: سياقه الفلسفي، سيرته،
فلسفته المتأخرة والتحولات الممهدة لها
د.مصطفى سمير
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
لقد جاوز فيتغنشتاين القنطرة، وخطف الأضواء من الأقران وتفوّق على أستاذه، وأصبح مُعترَفاً به على أنه واحد من أكثر المفكرين أصالة وتأثيراً في القرن العشرين، وغدت أعماله تنتمي إلى مجموعة المؤلفات التي يمكن أن يقرأها الفلاسفة ويؤولونها من جديد في كل جيل. كان تركيز فيتغنشتاين ضيقاً ومكثّفاً. فلم يكتب شيئاً في الفلسفة السياسية والقانون، وكتب القليل جداً في الأخلاق، واقتصر تدوين أفكاره الفلسفية حول الدين والفن على الملاحظات التي دونها طلابه في محاضراته. لكن كان تأثير فكره حول المنطق، واللغة، والرياضيات، والعقل، وحول التحقيق الفلسفي نفسه، هائلاً. « في الواقع، إنّ أحد أعمق الانقسامات بين الفلاسفة التحليليين اليوم هو بين أولئك الذين يرون أنّ هنالك تقارباً وثيقاً بين أهداف الفلسفة ومناهجها والعلوم الطبيعية، وبين أولئك الذين يتبعون فيتغنشتاين، ويرون الفلسفة كتخصص فريد من نوعه، "يستقر أعلى أو دون ، لكن ليس إلى جانب العلوم الطبيعية (TLP 4.111)". والانقسام الآخر هو بين أولئك الذين، من جهة، يؤدي أصل فكرهم إلى الفلسفة المبكرة لفيتغنشتاين، أي إلى العمل الذي كان قد تبلور، "الرسالة المنطقية الفلسفية"، وإلى دائرة فيينا، اللتين كانوا تأثروا بهما؛ وأولئك الذين، من جهة أخرى، تدين أفكارهم بالكثير إلى الفلسفة المتأخرة لفيتغنشتاين، أي إلى الكتاب الذي احتضن صياغتها التامة، "التحقيقات الفلسفية" » (John Hyman & Glock 2017).
يكتب أوتو وينينجر: « إنّ المرء يكون عبقرياً، إذا كان يعيش في علاقة واعية بالعالَم ككل. على هذا النحو، العبقري ليس هبة بل ضرورة داخلية » (Otto Weininger 1923). وعندما زارت أخت فيتغنشتاين (هيرمين) كامبريدج، قال لها راسل: « نتوقع أنّ الخطوة الكبرى التالية في الفلسفة سيستحوذ عليها شقيقك » (Rush Rhees 1981). وكتبَ فريغه عنه أنه « يتوقع من هذا الرجل الشاب أن يُنجز أشياءً عظيمة للبشرية » (Gottlob Frege 1989). هل كان فيتغنشتاين عبقرياً أم موهبة قابلة للتكرار؟ بلا شك كان عبقرياً واعياً بالعالم - وفق المعنى الذي قصده وينينجر - في كلتا فلسفتيه المبكرة والمتأخرة. ومازالت هالة العبقرية تحيط بفيتغنشتاين حتى يومنا هذا، مما عزز الاهتمام بفكره وبحياته.
في حين أنّ العمل العبقري يتجاوز شخصية صاحبه كما يرى شوبنهاور ووينينجر، إلا أنّ المتخيل الشعبي دائماً ما يفترض وجود علاقة وثيقة بين العمل العبقري ومبتكره وظروفه الحياتية. من هنا عَنْونَ راي مونك كتابه عن سيرة فيتغنشتاين بـ "الواجب العبقري" الذي صدر عام 1990. « ونظراً لهذه الهالة، وشخصية فيتغنشتاين القوية والمهيمنة مع خلفية عائلته غير العادية – بجذورها اليهودية، ثراءها الاستثنائي، مكانتها المتكاملة في المجتمع الفييني – والثراء الفكري لفيينا نهاية القرن وكذلك الثراء الفكري لكامبريدج في العقود الأولى من القرن العشرين، يمكننا أن نفهم لماذا جذبت حياته وعمله وكل شيء محيط بهما فضول ليس الفلاسفة المحترفين فحسب، بل كذلك المؤرخين الثقافيين، وكتّاب السير والمذكرات، ومؤلفي النميمة، والروائيين، وصناع الأفلام الوثائقية التلفزيونية، وحتى الفنانين ومؤلفي الموسيقى « (Hans Sluga 2018).
بَيدَ أنّ الفلسفة تطورت بعد وفاة فيتغنشتاين عام 1951 على نحو معادٍ لأفكاره، وطرأت تغيرات على فلسفة العقل واللغة بسبب اللسانيات والعلوم الإدراكية والذكاء الاصطناعي، وسيطر التصور الطبيعي أو العلمي الذي قدّمه كواين. حيث يتطابق مفهوم الفلسفة مع رؤية كواين التي مفادها أنّ الفلسفة مستمرة مع العلم، ومع اعتقاد راسل بأنّ الفلسفة لا بدّ أن تكون تمريناً غير مثمر إذا تمّ فصلها عن العلم، وما تبع ذلك من ظهور لنظريات مادية في فلسفة العقل والعلم لا تتوافق مع قناعة فيتغنشتاين المتمثلة في أنّ الرغبة في محاكاة العلم « تقود الفلاسفة إلى ظلام دامس » (BB 18).
يقدّم فيتغنشتاين أفكاره بأسلوب غامض على نحو متأصل وبليغ ومنغلق وكتاباته مقتضبة وشذرية ومركّزة ومرتبة وكثيراً ما يُعيد ترتيبها لتكون أكثر تماسكاً ودقة كعمل فني محكم. حيث يكتب: « إنّ ضغط أفكاري في تسلسل منظَّم هو عذاب بالنسبة لي ». « لقد أهدرتُ قدراً لا يوصف من الجهد في ترتيب أفكاري التي قد لا تكون لها قيمة من الأساس » (CV 28). في حين أنّ فلسفته المبكرة كانت مدفوعة بشكل أساسي باستجابته لفلسفة المنطق لفريغه وراسل، إلا أنّ فلسفته المتأخرة - على الأقل في السنوات الحاسمة بين عاميّ 1929 و1945 - كانت قبل كل شيء استجابة لعمله المبكر، وحواراً مع نفسه. حيث يقول في تقديمه للتحقيقات الفلسفية : « إنّ "أفكاري الجديدة" لا يمكن فهمها بشكل صحيح إلا من خلال مقارنتها ومعارضتها مع خلفية طريقتي القديمة في التفكير ». وفي عام 1948، كتب إنّ معظم كتاباته عبارة عن محادثات خاصة مع نفسه، « أشياء أقولها لنفسي وجهاً لوجه » (CV 88).
سيرة حياته ونشأته
ولد لودفيغ فيتغنشتاين في 26 أبريل عام 1889، وهو الطفل الثامن والأصغر لواحدة من أغنى العائلات في هابسبورغ فيينا. على الرغم من أنّ كارل فيتغنشتاين والد فيتغنشتاين تربّى على الإيمان البروتستانتي، وعلى الرغم، أنه بحلول الوقت الذي ولد فيه لودفيغ، كان أفراد الأسرة قد توقفوا عن تعريف أنفسهم على أنهم أعضاء في المجتمع اليهودي، إلا أنّ العائلة كانت يهودية في الأصل. كانت أصغر أخواته مارغريت (جرتيل) هي الأقرب إليه وكانت تُعتبر مثقفة العائلة ومن خلالها تعرّف فيتغنشتاين على أعمال بعض المفكرين الذين سيؤثرون عليه على مدى الحياة منهم سيغموند فرويد وكارل كراوس وأتو وينينجر وآرثر شوبنهور.
كان لودفيغ يُعتبر من أقل أفراد الأسرة موهبة؛ فتى لطيف، مؤدب، لكنه لا يمتلك ذكاء كبيراً أو موهبة استثنائية. وعندما تعلق الأمر بتعليمه، قرر والداه أنه لن يحصل على تعليمه على يد مدرّسين خاصين، كما كان الأمر مع إخوته هانز ورودي (اللذين انتحرا أثناء طفولته) وكورت، ولن يتم إرساله إلى مدرسة فيينا الثانوية المتقدمة. بدلاً من ذلك، تم إرساله إلى مدرسة ثانوية متوسطة في لينز، وهي مدرسة لم تشتهر إلا بأنّ أدولف هتلر تخرّج منها. وهنا يتساءل راي مونك قائلاً: « لم أرَ حتى الآن تفسيراً مُرْضياً بحق حول سبب اعتقاد كارل وبولدي أنه من الجيد إرسال ابنهما الأصغر بعيداً إلى لينز إلى تلك المدرسة غير المميزة إلى حدٍ ما. ربما كانا يخشيان من أنّ لودفيغ لن يجتاز متطلبات القبول الصارمة لمدرسة الجيمنازيوم العالية المرموقة وشعرا كذلك بأنّ المزيد من التعليم الفني والقليل من التعليم الأكاديمي هو الأنسب له (لأنه كان يُظهر على الدوام اهتماماً بالهندسة)، لكن مازال السؤال قائماً لماذا لينز؟ هل لأنهما لم يجدا مدرسة مناسبة في فيينا؟ بكل الأحوال، كانت السنوات الثلاث التي قضاها فيتغنشتاين في المدرسة من 1903 إلى 1906 تعيسة إلى حد ما. فقد أخفق في تكوين صداقات مع زملائه، حيث كان يبدو بالنسبة لهم وكأنه كائن من عالم آخر، ولم يجد في المدرسة أي شيء يثير حماسه الفكري. كانت درجاته متواضعة ويبدو أن أساتذته لم يتركوا أي أثر دائم عليه » (Monk 2017).
كما ذكرنا سابقاً، كانت أخته مارغريت هي من عرّفته على بعض المفكرين، ومن خلالها قرأ مجلة "الشعلة" Die Fackel لكارل كراوس و"العالَم كإرادة وتمثيل" لآرثر شوبنهاور، و"الجنس والشخصية" لأوتو وينينجر. ومن هذا الأخير يرى راي مونك أنه يبدو أنّ فيتغنشتاين قد اكتسب مفهوماً معيناً عن العبقرية باعتبارها تتشكّل من مجموعة واجبات على شقين، الأول أن تُفكر بوضوح، والثاني، أن تتصرّف بشكل لائق ومحترم، هذان الأمران المنطقي والأخلاقي، هما في الأساس نفس الشيء، جانبان من "واجب المرء تجاه نفسه".
كما قرأ فيتغنشتاين لعالمين كان لهما تأثير كبير على نظرته الفلسفية، هما لودفيغ بولتزمان الذي كان أستاذاً في جامعة فيينا وكان هناك حديث عن أن يدرس فيتغنشتاين عنده بعد أن يتخرج من مدرسته، و هاينرك هارتز. حيث تعلّم فيتغنشتاين من مبادئ الميكانيكا لهارتز درساً سيُثري تفكيره الفلسفي برمّته، وهو أنه في بعض الأحيان من الممكن التغلّب على الصعوبات التي يواجهها المرء في فهم مفهوم ما، لا من خلال حل المشكلات التي يُثيرها ذلك المفهوم بل من خلال إذابتها. وفي سنة 1906 بعد أن غادر فيتغنشتاين مدرسة لينز كان بولتزمان قد انتحر، وبدلاً من دراسة الفيزياء في فيينا ذهب إلى برلين لدراسة الهندسة الميكانيكية في الجامعة التقنية، وبعد ذلك سافر في صيف عام 1908 إلى إنكلترا لدراسة علم الطيران في جامعة مانشستر.
في مانشستر، تابع فيتغنشتاين حياته بعد ذلك بصفته طالباً باحثاً في قسم الهندسة. لم يكن يعمل للحصول على درجة علمية، بل كان يتابع مساره البحثي الخاص الذي تركّز على محاولته تصميم وبناء محرك طائرة، وأخذ براءة الاختراع على تصميمه وأخذته جامعة مانشستر على محمل الجد وحصل من خلالها على منحة دراسية لسنة 1910 -1911، لكن في ذلك الوقت، احتلت مشاكل هندسة الطيران المرتبة الثانية في ذهنه بعد المشكلات الفلسفية التي أثارها المنطق والرياضيات. وسرعان ما ازداد اهتمامه بفلسفة الرياضيات بعد وصوله إلى مانشستر وحضوره محاضرات الرياضي المشهور جي. أي. ليتلوود، وبدء يحضر مناقشات أسبوعية مع طلاب باحثين آخرين، حيث كانت المناقشات ترتكز على مشاكل تقديم الرياضيات مع أسس منطقية. وهذا ما قاده إلى راسل وفريغه. خلال هذه الفترة، ازدادت علاقته براسل قوة خصوصاً بعد أن كتبَ شيئاً عن الفلسفة وأُعجِب به راسل أيما إعجاب وقال بسببه ما قال من مدح عنه أمام أخته هيرمين. خلال هذه الفترة تغيرت طريقة تفكير فيتغنشتاين وتبددت شكوكه حول قدرته في التفلسف بالكامل واستعاض عنها بالتوكيدات الصارمة الحادة حتى أنه لم يتردد في التعبير عن كراهيته الشديدة أمام راسل عن مقال للأخير المسمى بـ "جوهر الدين"، ولا حتى في إخبار جورج إدوارد مور أنّ محاضراته حول فلسفة علم النفس كانت سيئة للغاية (Monk 2017).
في عام 1913، من خلال مراسلاته مع راسل، ازداد إعجاب الأخير بقوته المنطقية ورضخ له في غالب التصريحات التي أعلنها بخصوص المنطق، وبدا له - على حد تعبير راي مونك - أنه قد حان الوقت ليترك حقل المنطق إلى فيتغنشتاين وينشغل بمشاكل الإبستمولوجيا. وفي خضم ارتداء فيتغنشتاين عباءة راسل في المنطق، عرضت عليه جامعة كامبريدج في عام 1913 مراجعة مرجِع في المنطق يحمل عنوان "علوم المنطق" للمنطقي الكاثوليكي التقليدي بيتر كوفي. يصف راي مونك (2017) مراجعة فيتغنشتاين بأنها : « كانت مراجعة لاذعة للغاية، وواثقة من نفسها، ووعظية، معلناً فيها عن نفسه كبطل محارب ومتحزّب لمنطق فريغه وراسل ضد المنطق الأرسطي الذي تبناه كوفي، حيث يزعم فيتغنشتاين أنّ الأول متقدم على الأخير ولا يمكن مقارنته معه إلا بما جعل كل من علم الفلك والكيمياء يتطوران ويستقلان عن التنجيم والخيمياء.
وفي صيف نفس العام، ذهب في إجازة إلى النرويج، وأمضى هنالك وقتاً طويلاً في العمل على المنطق، وشعر بأنه ربما اقترب من تحقيق نجاح مهم في المنطق وبدأ يساوره القلق من احتمال موته قبل أن يتمكّن من إنهاء عمله، فقرر ترك جامعة كامبريدج والعيش بمفرده في النرويج حتى ينتهي من عمله على المنطق ومن ثم يُملي أفكاره على راسل. في خضم ذلك، حاول راسل جاهداً ثنيه عن ترك كامبريدج والذهاب إلى النرويج قائلاً:
"قلت إنها ستكون مظلمة وقال هو إنه يكره ضوء النهار. قلت له ستكون وحيداً وقال سأمارس البغاء بعقلي أثناء حديثي مع الأُناس الأذكياء. قلت له ستُجَن وقال سيحمني الله من الجنون. (بالتأكيد سيفعل الله ذلك)" » (Monk 1990, p.91)
وخلال بقاءه في النرويج وخروجه منها إلى فيينا بسبب أعياد رأس السنة ومن ثم عودته إليها كان منشغلاً بكتابة كتابه الذي سماه logik، وفي تلك الفترة، كان يراسل راسل ويحكي له عن القلق والغليان الدائم بداخله الذي يأمل منه أن يحوله إلى شخص آخر مختلف، وكتب إلى راسل عبارته المشهورة قائلاً: «كيف يمكنني أن أُصبح منطقياً قبل أن أكون إنساناً » (رسالة إلى راسل في كانون الأول 1913). ومن هنا، وبعد أن شعر بأنّ راسل لم يفهم ما يسعى إليه، بدا له أنّ الأفضل قطع علاقته مع راسل وقصرها على نقل الحقائق التي يمكن إثباتها بشكل موضوعي وتفادي «أي نوع من الأحكام القيمية» (رسالة إلى راسل في 3 مارس 1914). وبدأ في نفس الوقت بمراسلة جورج مور وحثّه على القدوم إلى النرويج، حتى قدِم الأخير إليه من كثرة ضغطه عليه في 19 مارس 1914 وأملى عليه السلسلة الثانية من الملاحظات حول المنطق، والتي اعتبرها فيتغنشتاين متطورة بشكل كبير عن تلك التي تركها عند راسل. وفي قلب هذا التطور كان يقبع التميز بين ما يمكن قوله وما يجب إظهاره. في هذا التمييز – على حد تعبير راي مونك – اعتقد فيتغنشتاين أنه وجد الحل لمشاكل المنطق التي أزعجته هو وراسل. «إنّ القضايا المسماة بالمنطقية تُظهر الخصائص المنطقية للغة وبالتالي للكون. لكنها لا تقول شيئاً» (NB 108). على سبيل المثال، ما حاول راسل قوله في نظرية الأنماط لا يمكن قوله؛ بل بالأحرى يتم إظهاره من خلال أنماط مختلفة من الرموز المستعملة في القضايا (Monk 2017).
ومن ثم غادر مور النرويج إلى كامبريدج. وكان فيتغنشتاين قد اعتقد أنه أنجز ما كان يسعى إلى إنجازه: سرد مدوَّن عن الأفكار حول المنطق التي كان يطوّر فيها منذ قدومه إلى كامبريدج عام 1911. وحثَّ راسل على مناقشة هذه الملاحظات مع مور، وبالفعل طلب من مور تقديمها كأطروحة لنيل درجة البكالوريوس من جامعة كامبريدج، إلا أنه تم رفضها لعدم احتوائها على المراجع والتقديم، مما أثار غضب فيتغنشتاين وقطع علاقته مع مور لمدة 15 سنة. وقال له «إذا كنتُ لا أستحق أن أحظى باستثناء لي حتى في بعض التفاصيل الغبية، فـلِأذهب إلى الجحيم إذن مباشرة، وإذا كنتُ أستحق ذلك الاستثناء وأنت لم تمنحني إياه – فوالله – لِتذهب أنت إلى الجحيم» (رسالة إلى مور 7 مايو 1914). وبعد ذلك في 7 أغسطس بدأت الحرب العالمية الأولى وانضم فيتغنشتاين إلى الجيش النمساوي وتم تعيينه في فوج المدفعية ليخدم في الجبهة الشرقية. وكان قد خدم في العامين الأولين خلف الخطوط. وضاقت نفسه من ذلك في أغلب الأحيان، وأيقن أنه من المستحيل إقامة علاقة صداقة مع الأشخاص الذين خدم معهم جنباً إلى جنب («فظّين على نحو لا يُصدّق وأغبياء وخبثاء» (Monk 1990, p. 114)). وكان متيقناً من أنه يقاتل في الجانب الخاسر. تُشير مذكراته اليومية إلى أنه غالباً ما كان يفكر بالانتحار. وما أنقذه منه هو الإنجيل أو مختصر الإنجيل لـ ليو تولستوي الذي قرأه عدة مرات حتى حفظه عن ظهر قلب.
وفي مارس عام 1916، وجد فيتغنشتاين نفسه أكثر قدرة مما كان عليه في النرويج في الكتابة عن المنطق. فكتب عن القضايا والدالّات والوقائع. وفي 11 يونيو 1916 استحوذ عليه سؤال: «ماذا أعرف عن الله وعن الغرض من الحياة ؟» لِيُجيب بقائمة تتضمن:
-أنا أعرف أنّ هذا العالم موجود.
- أنا كائن فيه مثلما تكون عيني في مجالها البصري.
- وأنّ هنالك شيئاً ما يستشكل حوله، نسميه المعنى.
- وأنّ هذا المعنى لا يقع فيه بل خارجه.
(NB 11.6.16)
"إنّ معنى الحياة"، كما يقول لاحقاً في نفس التدوينة اليومية، «أي، معنى العالم، يمكننا أن نُطلق عليه الله».
في هذه الفقرة نلمس توسع في فكر فيتغنشتاين من المنطق إلى معنى الحياة. وفي تموز 1918، أخذ إجازة استمرت حتى أيلول، وقرر أن يقضيها في بيت عمه في هالين. وهناك اكتمل مخطوط كتابه "رسالة منطقية فلسفية". وبعد ذلك عاد إلى إيطاليا وهناك وقع في الأسر مع حوالي نصف مليون أسير آخر في أيدي القوات الإيطالية، واستمر في الأسر قرابة عام كامل. خلال تلك الفترة، تمكّن من مراسلة راسل وإخباره عن كتابه وقد أُعجِب الأخير به إعجاباً شديداً واقتنع بما اعتبره النزاع الرئيسي عند فيتغنشتاين الذي مفاده أنّ قضايا المنطق ليست صحيحة بنفس الطريقة التي تكون القضايا الأخرى صحيحة من خلالها. لكنّ فيتغنشتاين أخبره بأنّ هذا لم يكن هدفه الرئيس. بل كان يقصد التمييز بين ما يمكن قوله وما يمكن إظهاره فقط، الذي «أعتقد أنه المشكلة الأساسية للفلسفة» (رسالة إلى راسل في 19 أغسطس 1919). وفي أغسطس 1919، تمكن فيتغنشتاين من العودة إلى فيينا. وعند وصوله، كان أول ما فعله تخليص نفسه من الثروة الهائلة التي ورثها عن والده، وكان في تصرفه هذا على حد تعبير محاسب العائلة، "قد انتحر مالياً". ومن ثم التحق بكلية تدريب المعلمين في فيينا وانتقل إلى منزل متواضع في الحي الثالث من فيينا. بعد أن نجا من الحرب وحلّ جميع مشاكل الفلسفة، أراد على ما يبدو أن يبدأ حياة جديدة، أن يكون شخصاً مختلفاً إذا جاز التعبير (Monk 2017). وبدأ في البحث عن دار نشر تتولى نشر كتابه ولغرابة كتابه لم تقبل أي دار نشره إلا بعد أن قدّم له راسل الذي كان في وقتها المفكر الأشهر في العالم،
حيث التقى فيتغنشتاين راسل في هولندا وراجعا الكتاب سطراً بسطر وكتب راسل مقدّمة توضيحية تؤكد على أهمية الكتاب، وأخيراً تم قبول نشر كتابه من قِبل دار النشر الألمانية ريكلام. ومع ذلك، بعد أن استلم فيتغنشتاين مخطوطة مقدّمة راسل رفض نشرها مع الكتاب، مما دفع دار النشر إلى التراجع عن نشره.
وإلى خريف 1920 لم يُنشر الكتاب بعد، خلال تلك الفترة، بدأ فيتغنشتاين وظيفته الجديدة كمعلم مدرسة في قرية في تراتنباخ جنوب فيينا. بقي هناك عامين ولم يعرف السعادة، وبدا بالنسبة للطلاب ككائن غريب لا يمكن فهمه. لم يكن عمله كمعلم ناجحاً، وقلة قليلة من الطلبة تأقلموا معه وكان له تأثير ملهم عليهم، لكنّ أكثرهم لم يتمكنوا من مجاراة المعايير العالية جداً التي توقعها منهم. كان ردّ فعله عليهم ساخطاً، وأحياناً كان يضربهم أو يشد شعرهم، مما أدى إلى نفورهم وأولياء أمورهم منه (Monk 2017). ومن ثم حصل على موافقة لنشر كتابه عند دار نشر ألمانية ضمن مجلة ألمانية (Annalen der Naturphilosophie) في عام 1921، وتزامن ذلك مع الترتيب مع دار نشر أخرى لنشره باللغة الإنكليزية في سلسلة سمّيت "المكتبة الدولية لعلم النفس، الفلسفة والمنهج العلمي". وكان شرط الدارين إدراج مقدّمة راسل ووافق فيتغنشتاين على ذلك. عمل على ترجمة كتابه إلى الإنكليزية صديقه فرانك رامزي الذي كان عمره آنذاك 18سنة فقط، لكنه كان معترف به في كامبريدج على أنه طالب يتمتع بقدرة وذكاء استثنائيين. نُشرت النسخة الإنكليزية في عام 1922. بعد ذلك ساءت علاقة فيتغنشتاين مع سكان القرية، وقرر ترك العمل هناك، ومن ثم التقى راسل في إنسبورك، وكان اللقاء مخيباً بينهما من الجانبين ولم يملك كل منهما ما يدعو إلى بقاء العلاقة بينهما بلا فتور.
قضى فيتغنشتاين أربع سنوات أخرى كمعلم، ثم استقال من التعليم عام 1926 وعاد إلى فيينا. وفي عام 1927 قابل شليك وأجرى عدة لقاءات فلسفية لمناقشة أفكار "الرسالة". وفي عام 1929 عاد إلى كامبريدج وحصل على الدكتوراه في الفلسفة عن الرسالة التي فحصها راسل ومور. بعد سنة من رجوعه إلى كامبريدج توفي صديقه فرانك رامزي بعد عملية جراحية في البطن وكان عمره وقتها 26 عاماً، والذي كان في تلك الفترة القصيرة قد قدّم مساهمات كبيرة في نطاق واسع من المجالات الفكرية بما في ذلك الرياضيات والاقتصاد والفلسفة. لقد كان موت رامزي خسارة ومأساة كبيرة لفيتغنشتاين الذي -على حد تعبير أندي هاملتون- جرّده من أي نقد ودّي للطرف الآخر. ومن الثلاثينيات فصاعداً انشغل بإنتاج كتاب يستوفي فكره الأخير واقترب من نشر عمله المتأخر خلال فترة 1933 -1934، حيث ألغى محاضراته وتفرّغ لإملاء أفكاره على مجموعة صغيرة من طلبته المفضلين الذين وزعوها فيما بعد على مجموعة أكبر. مثّلت هذه الإملاءات "الكتاب الأزرق". ولم ينحصر توزيع هذه الإملاءات على طلبة كامبريدج بل وصلت نسخ منها إلى جامعة أوكسفورد بل وحتى إلى قسم الفلسفة في الولايات المتحدة. وفي السنة التالية أملى على تلميذيه المفضلين للغاية فرانسيس سكينر وأليس أمبروز مجموعة ثانية مثّلت "الكتاب البني" الذي كان محاولة مبكرة لشيء شبيه بالنسخة المطبوعة التي نُشرت بعد وفاته على أنها التحقيقات الفلسفية (Monk 2017).
في عام 1935 قاده إحساسه بأنه ليس له مكان في الثقافة الغربية إلى التفكير في الانتقال إلى الاتحاد السوفيتي.
فزار موسكو ولينغراد، وعُرض عليه إلقاء محاضرة هناك. إلا أنه عاد محبطاً مما رأه هناك وتخلى عن فكرة أن يصبح مواطن سوفيتي. وعندما انتهت زمالة فيتغنشتاين التي استمرت خمس سنوات في صيف 1936 انتقل مرة أخرى إلى كوخه في النرويج، حيث كان يأمل أن يتمكن من إنهاء كتابه. وهناك مرة أخرى اعتبر التفكير حول المنطق وحول "خطاياه" أنهما وجهان لعملة واحدة. أو على حد تعبيره: «إذا لم يرغب المرء في النزول إلى مستوى نفسه، لأنّ ذلك يؤلمه جداً، فسيبقى سطحياً في كتاباته». في ضوء ملاحظات من هذا القبيل، يبدو أن قرار فيتغنشتاين بالإدلاء بسلسلة من الاعترافات كان في ذلك الوقت جزءًا من تحضيراته لإنهاء كتابه. وفي نهاية عام 1936 وبداية عام 1937 التقى على انفراد بالعديد من الأصدقاء - في فيينا وكامبريدج - ليُخبرهم عن أوقات في حياته كان غير أمين فيها أو تصرف بطريقة يعتبرها غير جديرة. أحد هذه الاعترافات كانت أنه سمح للناس بأن يعتقدوا خطأً أنه في ربع من نسبه يهودي في حين أنّ الحقيقة هي أنه في ثلاثة أرباع من نسبه كان يهودياً. والاعتراف الآخر أنه عندما كان معلِّماً ضرب تلميذاً ثم أنكر ذلك. اعتقد فيتغنشتاين أنّ هذه الاعترافات «جلبتني إلى مياه أكثر استقراراً، إلى علاقة أفضل مع الناس، إلى جدية أكبر». ربما لم يكن من قبيل الصدفة أنّ قطعة الكتابة التي كان أكثر رضاً عنها أثناء فترته المتأخرة- تلك التي نُشرت بعد وفاته تحت عنوان "التحقيقات الفلسفية" ("الجزء الأول" من الطبعات السابقة) – تمت كتابتها مباشرة بعد هذه الاعترافات (Monk 2017).
بقي فيتغنشتاين في النرويج حتى نهاية 1937، ولم يتحمل العيش بمفرده فانتقل إلى دبلن، حيث كان تلميذه القديم، موريس دروري، يتدرب ليصبح طبيباً نفسياً. وكان هناك عندما سمع في 12 مارس 1938 أنّ النمسا أصبحت جزءاً من الرايخ الثالث لهتلر. بين عشية وضحاها لم يعد فيتغنشتاين مواطناً نمساوياً وأصبح في وضع لا يطاق كونه يهودياً ألمانياً بشكل رسمي. بعد بضعة أيام، ذهب إلى كامبريدج لمناقشة الوضع مع بييرو سرافا، الذي نصحه أولاً بالبحث عن وظيفة أكاديمية في كامبريدج ثم التقدم بطلب للحصول على الجنسية البريطانية. ونجح في كل ذلك بمساعدة كينز وتمكن في صيف عام 1939 من الدخول إلى النمسا بجواز سفر بريطاني.
ثم سافر إلى كامبريدج، وعاش لمدة عام مع صديقه فرانسيس سكينر. في صيف عام 1938 قدّم النسخة المطبوعة التي كان قد أعدها في النرويج إلى مطبعة جامعة كامبريدج، التي كانت سعيدة جداً بقبولها. وفي فبراير 1939، تم اختياره ليكون خليفة لمور كأستاذ للفلسفة في كامبريدج. وخلال الحرب عمل فيتغنشتاين بواباً في مستشفى غاي. وفي عام 1943، اتصل بمطبعة جامعة كامبريدج مرة أخرى، هذه المرة باقتراح أن ينشروا عمله الجديد جنباً إلى جنب مع "الرسالة". في يناير 1944 وافقت المطبعة على ذلك. وغادر فيتغنشتاين إلى نيوكانسل حيث كان تلميذه راش ريس يعيش هناك، وأمل أن يُنهي كتابه عنده قبل أن يعود إلى واجباته المهنية في كامبريدج. في كامبريدج، وجد نفسه في وضع غريب. فمن جهة كان الفيلسوف الأكثر تأثيراً وإعجاباً بين جيل الشباب من الفلاسفة الأكاديميين، ومن جهة أخرى، ازداد ازدراؤه للفلسفة الأكاديمية. ولم يفكر حتى في نشر أعماله في المجلات الأكاديمية وتجنب المؤتمرات الأكاديمية. استمر هذا التوتر حتى طفح به الكيل واستقال من كرسيه في عام 1947. وسافر إلى إيرلندا وبقي سنتين هناك في دبلن ليعتني به دروري (كان وقتها عمره 60 سنة في عام 1949)، وبدأت أعراض الكبر بالظهور بشكل ملحوظ عليه، وتخلى عن خطط رؤية كتبه منشورة أثناء حياته. واستمر في كتابة الملاحظات الفلسفية عن اللون وعن مفهوم اليقين، ولم تكن هذه الملاحظات مرتبطة بشكل مباشر بالكتاب الذي كان يعمل عليه منذ عام 1930. وقام بتسمية ثلاثة من أصدقائه كوصاة على مؤلفاته - إليزابيث أنسكومبي، راش ريس، جورج فون رايت- وترك لهم مهمة تحديد الأجزاء التي يجب نشرها من كتبه (Monk 2017).
في نهاية عام 1949 تم تشخيص فيتغنشتاين بأنه مصاب بسرطان البروستاتا. وكان قبل سنة من ذلك قد قبل دعوة من صديق وتلميذ سابق نورمان مالكوم إلى زيارة جامعة كورنيل في نيويورك. وعندما شعر بالتعب وأنه قد يموت في المكان الخاطئ - أي في أمريكا - عاد إلى إنكلترا، وهناك شُخِّص بالمرض، ومن ثم عاد إلى المدينة التي ولد فيها. في فيينا، أخبر أخته هيلين: «آمل أن أجد السلام» (Monk 1990, p. 559). وبعد قضاء بضعة أشهر في فيينا رجع إلى إنكلترا وعاش عند فون رايت في كامبريدج، ومن ثم عند أنسكومبي في أوكسفورد. وهناك عرفّته أنسكومبي على الراهب الدومينيكاني الأب كونراد بيبلر، الذي تحدث معه عن الله والروح. في عام 1951 انتقل إلى منزل طبيبه في كامبريدج إدوارد بيفان. وتوفي هناك في 29 أبريل 1951. كانت كلماته الأخيرة: «أخبرهم أنني عشت حياة رائعة» (WAM 81).
فلسفته المتأخرة والتحولات التي مهدت لها
بالنسبة لفيتغنشتاين، كانت عملية تطوير أفكاره الفلسفية مهمة بقدر أهمية نتيجتها النهائية. ففي عام 1941 قال فيتغنشتاين في حديث له:
« إنّ الأمر هو على هذا النحو، إذا وجدت طريقك للخروج من الغابة، فقد تعتقد أنه المخرج الوحيد. بعد ذلك تجد طريقاً آخر للخروج. لكنك لم تكن لتجده على الإطلاق ما لم تكن قد سرت في الطريق الآخر أولاً. ما كنتُ لأكون حيث أنا الآن لو لم أجتاز ما تم التعبير عنه في "الرسالة"» .
يمثل مؤلَف "الملاحظات الفلسفية" (PR) الذي كتبه عام 1929 المرحلة التي بدأت فيها فلسفة "الرسالة" بالتعثر والانهيار. ففيها يستعيض عن فكرة الفضاء المنطقي بـ "النحو المنطقي"، وهو مفهوم سيتم استبداله فيما بعد بالألعاب اللغوية.
يتضمن الكتابان "الأزرق" و"البني" اللذان سبق بيان أنهما كانا إملاءات منه على خاصة طلبته خلال فترة 1933- 1935 طرقه الفلسفية الجديدة وتصوره المتحول عن الفلسفة. يقول هانس سلوجا: «لقد تطورت الكثير من أفكاره ما بعد "الرسالة" في هذين الكتابين. حيث اعتُبرا بمثابة دراسات تمهيدية لـ "التحقيقات الفلسفية". بيد أنّ الأفكار التي قدّمها فيتغنشتاين فيهما تختلف جوهرياً عمّا قاله في "التحقيقات الفلسفية". ففي حين أنه يفترض الآن أنّ اللغة تتألف من عدد من البنى المختلفة، ألعاباً لغوية، كما يسميها، إلا أنه ما زال يعتقد أنها محكومة بقواعد صارمة. فهو بعبارة أخرى لم يصل بعد إلى الرؤية المتأخرة التي مفادها أنه فقط البعض من الألعاب اللغوية تمتلك قواعد دقيقة في حين لا يمتلك البعض الآخر منها هذه القواعد. بسبب ذلك سيتعين عليه أولاً تطوير التحليل النقدي لاتباع القواعد الذي طوره في "التحقيقات الفلسفية". لذلك من المعقول الحديث عن فترة متوسطة مميزة في تطور فيتغنشتاين تمتد خلال النصف الأول من الثلاثينيات حتى وصوله إلى المرحلة الجديدة في تفكيره في "التحقيقات الفلسفية"» (Hans Sluga 2018). ويقول جون هيمان وهانز غلوك: «... [إنّ] ما يعنيه بشكل مفصّل تغيّرَ على نحو عميق في الثلاثينيات، لأنّ تصوره عن اللغة تغير. لقد تخلّى عن العقائد التي مفادها أنّ الجملة هي صورة منطقية مؤلفة من أسماء، وأنّ معنى الاسم هو الشيء الذي يمثله، وأنّ الاستخدام الواضح للغة دائماً ما يخدم نفس الغرض، وصف الحقائق. حيث أصبح يعتقد - على النقيض من ذلك - أنّ الجُمل لا تمتلك بنية منطقية موحّدة، وأنّ معنى الكلمة هو استعمالها في اللغة، وأنّ اللغة تتألف بشكل عام من مجموعة متنوعة ومختلفة من "الألعاب اللغوية"، التي تخدم مجموعة مختلفة من الأغراض البشرية على نحو غير محدود. (إنّ الألعاب اللغوية هي ببساطة نشاطات بشرية تنطوي على كلام أو كتابة يتم فيها استخدام مجموعات مميزة من المفاهيم. كلمة "لعبة" موجودة لتذكّرنا بأنّ استخدام اللغة مقيّد بقواعد، ويحدث في سياق ثقافة بشرية محددة وفي السياق الأوسع للحياة البشرية بشكل عام)» (Hans-Johann Glock & John Hyman 2017).
في حزيران عام 1945، اكتمل الجزء الأول من "التحقيقات الفلسفية" الذي مثّل تحفة فنية تميّز بها، حيث مثّلت تناقضاً صارخاً مع "الرسالة" والروح التي كُتبت بها. «ففي حين أنّ "الرسالة" سعت إلى الحصول على رؤية سامية عن ماهيات الأشياء مستقلة-عن اللغة، بدأت "التحقيقات" عبر موازنة هادئة للحقائق اللغوية لأجل حلّ العُقد في فهمنا. وفي حين استحوذت "الرسالة" على رؤية النقاء البلوري للأشكال المنطقية للفكر واللغة والعالم، كانت "التحقيقات" مشبّعة بالوعي الحاد بتنوع اللغة، وأشكالها المخادعة التي تقودنا إلى الارتباك. وفي حين أيّدت "الرسالة" الدراسة الطبقية (الجيولوجية) المفاهيمية على أمل الكشف عن ماهيات الأشياء غير القابلة للوصف من خلال التحليل العميق للغة، مارست "التحقيقات" دراسة ملامحية تضاريسية (توبوغرافية) مفاهيمية بهدف كشف المشاكل الفلسفية من خلال الوصف المتأني للحقائق اللغوية المألوفة. كانت "الرسالة" تتويجاً لتقليد ما في الفلسفة الغربية، في حين كانت "التحقيقات" [عملاً] لم يسبق له مثيل في تاريخ الفكر» (Hacker 2001).
فيتغنشتاين و"في اليقين"
يمثّل كتاب "في اليقين" على حد تعبير هاكر (Hacker 2001) عملاً فريداً من بين أعماله في تركيزه الحصري على الموضوعات الإبستمولوجية. فقد كتبه في فترة نهاية حياته ولم يتسن له مراجعته. بدء كتابته في خريف عام 1949، وفيه يعالج قضايا الحس المشترك – مثل، "لدي يد"، "لون دم البشر أحمر"، "الأرض قديمة جداً"، وغيرها – التي اكتشفها جورج إدوارد مور ووظّفها بطريقته الخاصة في رده على الشكوكية، كما ويتناول مفهوم اليقين وعلاقته بالشك والمعرفة.
يرى أندي هاملتون أن من أبرز الأفكار التي طورها فيتغنشتاين بشكل كبير في "في اليقين" هي ما يسميه هاملتون "المعرفة توحي بالإمكانية المنطقية للشك". حيث يرى فيتغنشتاين أنّ دعاوى المعرفة يكون لها معنى فقط عندما يمكن تصور الشك فيها: «ليس هنالك شيء اسمه شك في هذه الحالة ...، يترتب على هذا أنّ "أنا أعرف" ليس لها معنى أيضاً » (OC 58). تُعاكس هذه الرؤية رؤية ديكارت التقليدية التي يرفضها فيتغنشتاين والتي تتضمن أنّ المعرفة تتطلب الاستبعاد المنطقي للشك. حيث يرى ديكارت أنّ هنالك قضايا معرفية متيقنة لا تقبل الشك مثل الحقائق القبلية المستقلة للمنطق والرياضيات والميتافيزيقيا مثل"2+ 2=4"، و"كل حادث له سبب"، واليقينيات الذاتية النفسية مثل "أنا أتألم".
إنّ المعرفة عند فيتغنشتاين إنجازية دائماً لأنها بالأساس عملية فعالة وليست خاملة وبالتالي يجب أن تكون قابلة للشك أو للخطأ. معنى هذا أنّ اليقين عنده غير إبستمي، أي، إنّ القضية التي نكون متيقنين منها لا ينبغي أن تكون موضوعاً للمعرفة ولا قابلة للشك، لأنها إذا كانت معرفة كانت عرضة للشك وانتفى عنها اليقين المقصود. من هنا يكون فيتغنشتاين في تناقض صارخ مع ديكارت ومع كل من وقع في خطئه وقال "أنا أعرف أني لدي يد"، "أنا أعرف أني إنسان"، "أنا أعرف أنني أتألم" وغير ذلك.
فوفق فيتغنشتاين، عبارة "أنا أعرف" هي لغو فلسفي لا يستخدمها الرجل العادي، وعندما تستخدمها للرد على الشكوكي الذي يشكك في وجود تلك الأمور : تكون واقعاً في نفس ما وقع فيه الشكوكي، إذ كلاكما ادعى دعوى فلسفية متضمنة للغو أي لا معنى لها - أي ليس لها استعمال في لغة الرجل العادي. من هنا يوصلنا فيتغنشتاين إلى نوع من اليقين غير الإبستمي القائم على العُرف المنطقي بين الناس (أي المنطق بالمعنى الواسع المفتوح على الخطاب البشري الطبيعي عكس المنطق الصارم في "الرسالة") وهذا اليقين لا يُشكك فيه ولا يعتبره معرفة إنجازية. إنّ القضايا التي تعكس هذا النوع من اليقين يُسميها فيتغنشتاين بالمفصلات التي تقع خارج مسار التحقيق وتمثل الخلفية المتوارثة التي من خلالها نميز بين الصواب والخطأ (OC 94). هذه القضايا ليست تجريبية ولا قبلية بل تبدو أنها تجريبية. ربما كانت في فترة من الفترات قضية تجريبية عندما كانت داخل مسار التحقيق ومن ثم تحولت إلى قضية غير تجريبية تقع خارج مسار التحقيق بعد أن اعتاد الناس عليها وألفوها وأصبحت لا تقبل الشك ولا تُعتبر معرفة بل مرجع أو خلفية أو شكل حياة أو صورة عالمية نعتمد عليها لكي تستمر حياتنا بشكل طبيعي. فعلى سبيل المثال قضية "الأرض قديمة جداً" كانت في فترة من الفترات أثناء الصراع بين الكنيسة التي ترى أنّ عمر الأرض لا يتجاوز بضعة آلاف سنة والعلم الذي اكتشف للتو أو من فترة قريبة أنّ عمرها بضعة مليارات من السنين قضيةً تجريبية، أي موضوع قابل للشك والمعرفة، لكن الآن استقر عندنا أنها حقيقة لا تقبل الشك ولا تُعد معرفة إنجازية وأصبحت جزءاً من صورتنا العالمية التي نعتمد عليها ويُعتبر الآن من يقول إنها موضوع للمعرفة أو قابلة للشك واقعاً في لغو فلسفي لا معنى له.
تشكّل قضايا الحس المشترك التي وظفها مور ونقّحها فيتغنشتاين (لنصطلح عليها اسم القضايا المورية نسبة إلى مكتشفها مور) صنفاً متنوعاً أكثر من "الحقائق غير القابلة للشك التقليدية". حيث يشابه ويقارن فتجنشتاين "الأرض موجودة منذ العصور الماضية"، "كل إنسان لديه والدان"، "عندي يدان"، "اسمي ..." مع القضايا الحسابية ("12×12= 144")، ومع الأحكام السهلة التمييز ("هذه يد"، "هذه شجرة"). ما يريد فتجنشتاين قوله:
«إذا لم يندهش المرء من حقيقة أنَّ القضايا الحسابية (مثل جداول الضرب) "مؤكدة مطلقاً"، فلماذا ينبغي عليه أن يندهش من كون القضية "هذه يدي" مساوية لها أيضاً ؟ » (OC 448)
نحن نفترض في حياتنا اليومية أنَّ كلتيهما صحيحتان– لكن مع ذلك نجد الفلاسفة متمسكين بالشك في قضية "هذه يدي"، لكن لا يشككون في القضية "2+2= 4". لذلك، يطوّر فيتغنشتاين من خلال فكرة مور الرئيسية ما مفاده أنَّ هناك فئات يقينية أوسع من تلك التقليدية. إنّ التعويل على القبول الإنساني الجماعي لهذا النوع من اليقين يفتح المجال إلى تجاوز الحاجة إلى السعي إلى نوع خاص من اليقين الضيق الذي لا يتحصل إلا بعد التشكيك في كل شيء، والذي يقتصر وجوده على الاستعمال الفلسفي لا اليومي. ربما يمكن توظيف هذا الطرح الفيتغنشتايني في فهم الآية {أفي الله شك}، إذ تخريجاً على مذهب فيتغنشتاين المتأخر: إنّ الشك في وجود الله ممتنع، وفي نفس الوقت وجود الله ليس موضوعاً للمعرفة، بل قضية تقع خارج نطاق التحقيق وتشكّل الخلفية المتوارثة التي نميز من خلالها بين الصواب والخطأ، فهي جزء من شكل حياتنا أو صورتنا العالمية التي نعيش بها. لو قلت "أنا أعرف أنّ الله موجود" فأنت هنا – وفق فيتغنشتاين المتأخر- تسمح بالتشكيك في وجوده لأن هذا اليقين الناتج من معرفة فردية ليس بمنأى من الوقوع في شرك اللغة الخاصة – لغة لا يفهمها إلا الفرد الذي خصّ نفسه بها. وهذا الفرد قد لا يمّيز بين فعله للصواب وبين ما يبدو له أنه يفعل الصواب :
«ربما يميل الإنسان إلى قول إنّ كل ما يبدو لي صحيحاً، فهو صحيح. وهذا لا يعني إلا أننا لا نستطيع الكلام هنا عما هو صحيح» (PI 258)
ومما هو مميز في فهم فيتغنشتاين لهذه القضايا المورية والصور العالمية هو إمكانية تغيرها أو بقائها ثابتة، فيمكن أن تُصبح تجريبية، ويمكن أن تعود إلى خارج مسار التحقيق. يُبين فيتغنشتاين ديناميكية الصور العالمية من خلال استعارة بديعة في "في اليقين" هي استعارة قاع-النهر:
«قد يُتَصوّر أنّ بعض القضايا، التي لها شكل القضايا التجريبية، قد تصلّبت وعمِلت كقنوات لتلك القضايا التجريبية التي مازالت سائلة ولم تتجمّد بعد ... القضايا السائلة تتجمّد، والأخرى المتجمدة تصبح سائلة. ... قاع- نهر الأفكار ربما يتبدّل. لكنني أُميز بين حركة المياه فوق قاع- النهر وتبدّل القاع نفسه؛ على الرغم من عدم وجود فاصل واضح بينهما ... نفس القضية ربما تُعامل في وقتٍ ما كشيء خاضع للاختبار بواسطة التجربة، وفي وقت آخر كقاعدة للاختبار. وضفة هذا النهر تتكون جزئياً من صخور صلبة، لا تخضع إلى التغيير أو فقط ما كان ضئيلاً أو غير ملحوظ، وجزئياً من رمال، التي تارةً تكون في مكان واحد وتارةً في مكانٍ آخر بسبب ما يحصل لها من انجراف أو ترسّب».
(99– OC 96)
ومن الفروق المهمة التي نبّه عليها أندي هاملتون (Andy Hamilton 2014) في دليله الشرحي لكتاب "في اليقين" لفيتغنشتاين هو تفريق الأخير بين الصورة العالمية (Weltbild) والرؤية العالمية (Weltanschauung). إذ يمكن للاستعمال العادي أن يميز الصورة العالمية - باعتبارها شيئاً مضمراً وضمنياً – عن الرؤية العالمية – المثبتة والمتبناة عن وعي، كما في الاستعمال الماركسي عند غرامشي: إنّ تأسيس طبقة حاكمة يكافئ خلق رؤية عالمية. يُعد هذا الفارق من الأهمية بمكان. فالرؤية العالمية تتميز بكونها متعمدة وصريحة ومؤدلجة وقائمة على تحيزات وافتراضات مسبقة، تندرج فيها الرؤى الفلسفية مثل المادية، المثالية، البراغماتية، الشكوكية، الواقعية وغيرها ومعلوم أنّ مثل تلك الرؤى لا تصف تصرفاتنا الطبيعية كبشر. من هنا يرفضها فيتغنشتاين مقدّماً مفهوماً أوسع وأشمل هو "الصورة العالمية" التي تصفنا كبشر نتصرف بطبيعتنا وتعوّل على الاستعمال اليومي لا الفلسفي. بالنسبة لفيتغنشتاين غالباً ما تكون الرؤية العالمية محل ازدراء عنده حيث يقول في الفقرة (OC 422) : «لذا أحاول أن أقول شيئاً ما يبدو أنه مثل البراغماتية، هنا تمّت إعاقتي من قِبل نوع من الـ Weltanschauung» (*)
وأخيراً نختم مؤيدين لعبارة أندي هاميلتون: «لقد كان التأثير المهيمن لفيتغنشتاين على نهجي الفلسفي مقتصراً على كونه مسألة أسلوب ومنهج فلسفي أكثر من كونه اشتراكاً في العقائد والتوجهات» (فتجنشتاين و"في اليقين"، ص 19).
References
1- Hans-Johann Glock & John Hyman 2017, introduction of Blackwell Companion to
Wittgenstein 2017 by Hans-Johan Glock & John Hyman.
2- Ray Monk 2017, Ludwig Wittgenstein: a sketch of his life, Chapter 1 of Blackwell Companion to Wittgenstein 2017 by Hans-Johan Glock & John Hyman.
3- Ray Monk 1990, Ludwig Wittgenstein: The Duty of Genius. London: Jonathon Cape.
4-Hans Sluga 2018, Introduction: Ludwig Wittgenstein: The Man, the life, and the work, Ch 1. of the Cambridge Companion to Wittgenstein 2018 by Hans Sluga and David Stern.
5- P.M.S. Hacker 2001, Ludwig Wittgenstein (1889 - 1951), Ch. 5 of Blackwell Companion to analytic philosophy 2001 by A.P. Martinich and David sosa.
6- Rush Rhees 1981, Hermine Wittgenstein, “My Brother Ludwig”, in Rhees, ed., Ludwig Wittgenstein: personal Recollections, p. 3. Quoted by Ray Monk 2017.
7- Gottlob Frege 1989, “Briefe an Ludwig Wittgenstein”, in A. Janik, ed, Grazer Philosophische Studien 33/34 (1989), p. 16. Quoted by Ray Monk 2017.
8- Otto Weininger, Geschlecht und Charakter: Eine prinzipielle Untersuchung (Vienna and Leipzig: Wilhelm Braumuller, 25th ed 1923), pp. 215 and 229. Quoted by Ray Monk 2017.
9- Andy Hamilton 2014, Wittgenstein and On Certainty.
10- Wittgenstein books:
OC On Certainty
PI Philosophical Investigations
TLP Tractatus logico- Philosophicus
PR Philosophical Remarks
NB Notebooks 1914- 1916
BB Blue and Brown books
CV Culture and Value
PPO Public and Private Occasions (2003)