قصورُ السبب الواحد!
(نيل تايسون أنموذجاً)
علي جابر المشنوي
باحث دكتوراه في القانون المقارن بجامعة واشنطن أمريكا – مهتم بالقضايا الفكرية
(١)
الأمريكي نيل تايسون، العالم الفيزيائي الفلكي الشهير، له حضوره المؤثر فيما يتعلق بتخصصه، وقدم أطروحات كتابيه ومرئية جليلة. في أحد المقاطع الشهيرة لنيل تايسون كان يتحدث فيه عن سبب سقوط الحضارة الإسلامية، وقد عزا تايسون سبب سقوط الحضارة الإسلامية - مع العلم أنه مسبوق ببعض المستشرقين – إلى أبي حامد الغزالي الذي ألف كتاباً كما قال نيل تايسون "حرم فيه الفلسفة والرياضيات واعتبرهما من علوم الشيطان." وهو يقصد كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة.
سوف نأتي على أبي حامد وموقفه من الفلسفة والرياضيات فيما بعد، إنما اللافت في مقطع نيل تايسون = الاختزالية الشديدة عندما يعزو سقوط الحضارة الإسلامية إلى سبب واحد وهو ما نسبه إلى الغزالي، والأعجب من ذلك هو هذا التداول الكبير والتعليقات الداعمة للمقطع من أوساط متصلة بالثقافة!
إن سؤالاً كبيراً ومعقداً بحجم: لماذا تراجعت الحضارة الإسلامية وهي التي كانت نوراً ساطعاً على العالم كله؟ ليستحق أن تكون إجابته أعمق من ربطها بسبب واحد أو بشخص واحد في عالمٍ كان يعج بالعلماء! الأمر أعمق بكثير والقضية أعقد من ربطها بهذا السبب الواحد!
كان باستطاعة نيل تايسون والمصفقون له أن يقولوا - في أقل الأحوال - هناك عدة أسباب وهذا أحدها، بدلاً من هذه الطريقة المخلة والتي تكشف عن جهل وقصور في التصور والاطلاع، قصور في تصور الظروف التي أدت لهذا الانحطاط! وقصور في الاطلاع على تراث المُتّهم، الغزالي رحمه الله!
هب أن الغزالي حرّم الفلسفة والرياضيات واعتبرهما من علوم الشيطان – وهذا باطل وسنأتي عليه – فلماذا غفل هؤلاء عن الحراك الفلسفي المعاصر للغزالي كأطروحات ابن رشد؟ أو الحراك الفلسفي الذي استمر بعده كأطروحات ابن تيمية وهو الذي جاء بعد الغزالي بقرنين تقريباً!؟ إن هذا الحراك لوحده يدل دلالة قاطعة أن النقاشات حول الفلسفة والكتابة فيها لم تقف عندما كتب الغزالي كتابه، وهذا بالتالي يبطل السبب الذي ادعاه نيل تايسون لسقوط الحضارة الإسلامية!
(٢)
في الفصل الثالث من كتابه (أسطورة العنف الديني ) استحضر وليام ت. كافانو ما يُطلق عليه (الحروب الدينية في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر) وكيف تذكر القصة أن الدين هو السبب الوحيد لتلك الحروب حتى أُطلق عليها الحروب الدينية، وأنه لم يكن هناك خلاص للخروج من تلك المأساة التي تسبب فيها (الدين) إلا بصعود الدولة الحديثة صانعة السلام! ثم يبدأ المؤلف في بيان ضعف هذه الحجة، وأن القضية أعقد من ذلك، وأن ربط العنف بالدين فقط أو أن الدين هو السبب الوحيد لما سُمي بالحروب الدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ هو ربط مُخل ويحمل في طياته قصوراً شديداً! ثم قام المؤلف بدعم طرحه بإثبات أن هناك عوامل وأسباباً أخرى، سياسية واقتصادية واجتماعية كانت فاعلة فيما سمي بالحروب الدينية، وبالتالي فينبغي أن يكون السؤال هنا - كما طرحه المؤلف – على هذا النحو: ما نسبة أهمية كل عامل من هذه العوامل المختلفة في حصول ذلك العنف؟
المشكلة في المعالجات التي تُقدم سبباً واحداً لحدث ما - كما في المثالين السابقين - أنها تلقي بظلال نظرتها القاصرة على طريقة التعامل مع ذلك الحدث، فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، والقصور في فهم حدثٍ ما سيؤدي بالتأكيد لقصورٍ في التعامل معه، ويزداد الأمر سوءً عندما يصدر هذا التوصيف المُخل من شخصية شهيرة كما في حالة الأمريكي نيل تايسون، لأن تميز هذه الشخصية في حقلٍ ما – الفيزياء الفلكية - وطرحه للقضية بهذه الوثوقية؛ سيجعل شريحة كبيرة من الناس تردد ما يقول وتتعامل معه كحقيقة لا ينظر لها بعين النقد وإنما بعين التسليم!
(٣)
بقي أن نعود لإجابة هذا السؤال:
ما صحة ما ذكره نيل تايسون عن موقف أبي حامد الغزالي من الفلسفة والرياضيات وأنه حرمهما لأنهما من الشيطان؟
غير صحيح وبطلانه بيّن، ومن اطلع على ما كتبه أبو حامد الغزالي في "المنقذ من الضلال" و "تهافت الفلاسفة" سيعرف بما لا يدع مجالاً للشك أن ما نسبه نيل تايسون لأبي حامد = باطل، بل سيجعلنا نتساءل: هل قرأ نيل تايسون لأبي حامد؟ أم أنه ردد كلاماً ردده الناس ثم جاء المصفقون لنيل تايسون فرددوا ما ردده؟ وإن كان هذا هو الظاهر، فأين شعارات الموضوعية والنقد العلمي وعدم التسليم للأساطير التي يتغنى به أنصار العلم كنيل تايسون والمعجبين بطرحه في هذه القضية؟
لنترك الغزالي يجيب عن هذه الدعوى بنفسه!
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في (المنقذ من الضلال) عند حديثه عن أقسام علوم الفلاسفة: (اعلم: أن علومهم – بالنسبة إلى الغرض الذي نطلبه – ستة أقسام: رياضية، ومنطقية، وطبيعية، وإلهية، وسياسية، وخلقية ) ثم تحدث عن كل قسمٍ من هذه الأقسام بما يراه، وقد بيّن أن ضلال الفلاسفة إنما هو في قسم الإلهيات – وهو ما يتعلق بالعلم بذات الله وصفاته - ولأجله ألف كتاب تهافت الفلاسفة فإنه أراد به بيان بطلان مذهبهم في الإلهيات وليس تحريم الفلسفة والرياضيات كلها كما زعم نيل تايسون!
قال رحمه الله: (أما الرياضية: فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم، وليس يتعلق شيء منها بالأمور الدينية نفياً وإثباتاً، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها..)
ثم تكلم بنحوه في المنطقيات والطبيعيات فقال: (وأما المنطقيات: فلا يتعلق شيء منها بالدين نفياً وإثباتاً، بل هي النظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط مقدمات البرهان وكيفية تركيبها، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه. وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد، وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان؛ وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر ... وأما (علم) الطبيعيات: فهو بحث عن عالم السماوات وكواكبها وما تحتها من الأجسام المفردة: كالماء والهواء والتراب والنار، وعن الأجسام المركبة: كالحيوان والنبات والمعادن، وعن أسباب تغيرها واستحالتها وامتزاجها. وذلك يضاهي بحث الطب عن جسم الإنسان وأعضائه الرئيسة والخادمة، وأسباب استحالة مزاجه. وكما ليس من شرط الدين إنكار علم الطب، فليس من شرطه أيضاً إنكار ذلك العلم، إلا في مسائل معينة، ذكرناها في كتاب تهافت الفلاسفة)
ثم انتقل إلى الإلهيات فقال: (وأما الإلهيات: ففيها أكثر أغاليطهم، فما قدروا على الوفاء بالبرهان على ما شرطوه في المنطق ... ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلاً ... ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين، صنفنا كتاب التهافت) ثم عقب بالقسم الخامس والسادس "السياسية والخلقية " وليس هدفنا هنا بيان صحة مذهب أبي حامد رحمه الله وإنما بيان أن ما نُسب إليه من تحريم الفلسفة والرياضيات = كذبٌ! بل يدلُّ على أن قائل هذه الأكذوبة لم يقرأ شيئاً لأبي حامد، بل إن أبا حامد رحمه الله لم يكتف بموقفه هذا؛ بل أشار إلى آفتين لهما تعلق بالموقف من القضايا الرياضية – علم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم – وهاتان الآفتان لا تزالان تحضران في المشهد إلى يومنا هذا!
قال رحمه الله: (الأولى: أن من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها، فيحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة، ويحسب أن جميع علومهم في الوضوح وفي وثاقة البرهان كهذا العلم. ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتـهاونـهم بالشرع ما تناولته الألسن فيكفر بالتقليد المحض ويقول: لو كان الدين حقاً لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم! فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجحدهم استدل على أن الحق هو الجحد والإنكار للدين. وكم رأيت ممن يضل عن الحق بـهذا العذر ولا مستند له سواه! وإذا قيل له: الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون حاذقاً في كل صناعة، فلا يلزم أن يكون الحاذق في الفقه والكلام حاذقاً في الطب، ولا أن يكون الجاهل بالعقليات جاهلاً بالنحو، بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها رتبة البراعة والسبق. وإن كان الحمق والجهل قد يلزمهم في غيرها)
أما الآفة الثانية فإنها (نشأت من صديق للإسلام جاهل، ظن أن الدين ينبغي أن ينصر بإنكار كل علم منسوب إليهم: فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها، حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف، وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع. فلما قرع ذلك سمع من عرف ذلك بالبرهان القاطع، لم يشك في برهانه، ولكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع، فيزداد للفلسفة حبّاً وللإسلام بغضاً. ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات.. )
ثم بعد كل هذا البيان! يأتيك من يقول: الغزالي هو سبب سقوط الحضارة الإسلامية لأنه حرم الفلسفة والرياضيات! ثم يأتيك من يردد هذا الكلام ويعيده وينشره مرة وثانية وثالثة! لا يسعنا إلا أن نقول لمن هذه حالهم ما قاله الغزالي: لكل صناعة أهل بلغوا فيها رتبة البراعة والسبق؛ وإن كان الحمق والجهل قد يلزمهم في غيرها!
قال ابن القيم رحمه الله: (قاعدة: ليس في الوجود الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير؛ بل لا يؤثر سبب البتة إلا بانضمام سبب آخر إليه، وانتفاء مانع يمنع تأثيره. هذا في الأسباب المشهودة بالعيان وفي الأسباب الغائبة والأسباب المعنوية؛ كتأثير الشمس في الحيوان والنبات؛ فإنه موقوف على سبب آخر من وجود محل قابل، وأسباب أخرى تنضم إلى ذلك السبب )