هل تفكر الأفلام -الجوهرة العتيبي

هل تفكر الأفلام؟

الجوهرة بنت مقعد العتيبي

ماجستير لغويات ومحاضرة جامعية

 

" جميعنا نفهم الأفلام ولكن كيف نفسرها ؟ " كريستيان ميتز

ذكر جيمس مانكو في كتابه " how to read a film" بأن من أقدم نظريات الفن بحسب أرسطوا هي نظرية التجريد والتي تقسم الفنون على مسار ينطلق من الفن الأبعد عن التجريد كالتصميم والعمارة مرورا بالرواية والتي تكون بين بين إلى الموسيقى والتي تعتبر أكثر الفنون تجريداً ثم يتسائل أين بالإمكان وضع الفلم كفن في هذا المسار التجريدي للفنون ؟! يجيب مانكو تساؤله ليقول بأن الأفلام تغطي نطاقاً واسعاً فهي فناً تشمل هذا المسار كله بفنونه فالفلم فنا سرديا كالرواية وهو فناً تصويري كالتصوير وهكذا ..

ومنطلقاً من إجابة مانكو نستطيع القول ولهذا فإن الأفلام كفن جمالي لها تأثير أكبر على النفس بحكم شموليتها للفنون البشرية، وبحكم كونها أتت مواكبة للغة هذا العصر وثقافته وهي ثقافة " الصورة المتحركة " لا الصورة الصامتة كما في الكلمة المقروؤة بالروايات أو التصوير. وهي تثير ردة فعل عاطفية أو فكرية قوية أكثر مما تثيره بقية الفنون التي عرفتها البشرية. وبهذا أصبحت أكثر رواجاً بين الناس عن غيرها من الفنون، وربما يكمن السبب هنا هو لأننا نشاهد الفلم في ليلة ما أو بالذهاب للسينما مع الأصدقاء بهدف مشترك للجميع وهو المتعة والإثارة . وهذا ما دعى مؤرخ الفن الألماني إروين بانوفسكي يقول: "لو أن جميع الشعراء الغنائيين والمؤلفين الموسيقيين والرسامين والنحاتين –هنا يتكلم عن أصحاب الفنون الأخرى- أُرغموا بموجب القانون على وقف نشاطاتهم، فإن شريحة صغيرة نسبيا من عامة الناس ستدرك ما حدث وشريحة أقل ستشعر بالأسف بسببه, ولو حدث الشيء نفسه للأفلام فالعواقب الاجتماعية ستكون كارثة ".

فالمتعة هي القصد الأكبر من مشاهدة الفلم وحتى بالحديث عنه، حتى لربما أصبحت الأفلام ونجومها تأخذ جزءا من حواراتنا اليومية مع الأهل والأصدقاء ومن متابعاتنا في حساباتنا على التواصل الاجتماعي. وهذه المتعة والإثارة التي نشعر بها أثناء حديثنا أبعدت لدينا أي دافع للتفكير في ما نشاهده أو للوقوف للحظة في تساؤل حول لقطة ما أو صورة ما، وهذا ما يظهر جليا حول القراءات أو المراجعات التي نجدها منتشرة في اليوتيوب أو بالأندية الأدبية لدينا، إذ أن معظم ما يطرح هو مجرد عملية سردية للأحداث أو شرح مفصل للحبكة. ولأن سمة المتعة في السينما غيّبت التفكير في المشاهدة، ولأن الفلم شكّل ثقافة هذا العصر بحكم تفاعلها مع المجتمع والعالم فقد تولد لدينا نوعا سينمائيامن الفكر يُطلق عليه اصطلاحياً " الفيلموسوفي".

- ما الفيلموسوفي ؟

الفيلموسوفي هي دراسة في السينما كتفكير أي صياغة مفهوم السينما كتفكير. وهي المنظّر للصور والأصوات التي نعايشها لحظة مشاهدتنا للفلم. وهي تفترض فرضية رؤية الشكل السينمائي باعتباره تفكيراً متأملاً( ).ولهذا يقول المخرج السينمائي الروسي ايزنشتاين بأنه يجب معاملة اللقطات أو الصور السينمائية كمعادلة 1+1=2 أي أن الصورة أ يتوجب أن تتبعها الصورة ب لتكوّن لنا نتيجة تأملية وفكرة واضحة يخلقها عقل المشاهد أو كما قال أندريه خلق معنى في ذهن المشاهد لا تحويه الصورة بل ينتج من ارتباطها وعلاقاتها( )، فهي لقطات صور ومقاطع صوتية من أجل إكتمال فكرة مقصوده فالسينما "منطقة من القرار المتعمد" كما قال الفيلوسوف جيل دولوز. إذا الفيلموسوفي هي ربط أفعال الفلم بالدوافع والمقاصد الدرامية المقصودة والمتعمدة، أي هي عملية منطقية لتفسير أي ظهور للقطة سينمائية لفترة طويلة أو قصيرة ، هي تفسير لحركة الكاميرا في المشهد وتفسير أيضاً للصوت المصاحب له. هي تفسير للحظة سقوط توماس شيلبي في مسلسل Peaky blinder بعد وفاة زوجته. لِم لم يخرج في المشهد سوى خادمته وطفله ؟ وعند خروج طفله للمشهد، لم تم وضع الكاميرا على وجه الطفل وشيئا قليلا من جسده؟ لم لم ييظهر المخرج سوى أيدي الخادمة عند أخذ الطفل؟ تساؤلات سينمائية كثيرة تحاول الفيلموسوفي الكشف عن تفسير لها للمشاهد لأنها تهدف بذلك إلى إلقاء الضوء على أهمية وقيمة الصوت والصورة.

فالسينما تستخدم الواقع ثم تقوم بإعادة صياغته عمدا وإعادة تشكيله عن قصد وغاية لتضعه أمام المتفرج، هي بذلك تخلق عالمها الخاص ولغتها الخاصة وإرادتها الخاصة في أن تقدم لنا ما تريده هي. فهي ليست عملية نسخ للواقع ومطابقته بعرض منزل مطل على بحر بل تحرك نظرك إلى الزاوية التي تريدك أن تشاهد المنزل من خلالها.فهي بناء منظم وعالم تم التفكير فيه. فما هو هذا البناء السينمائي في الفيلموسوفي؟

يبدأ هذا البناء بمفهومين رئيسين في الفلموسوفي وهما: التفكير السينمائي والعقل السينمائي( ). فالتفكير السينمائي هو عبارة عن مزيج من الفكرة والشعور والعاطفة التي يتلقاها المشاهد، وهذا التفكير هو المساهم في التشكيل الدرامي الذي يهدف إليه العقل السينمائي والذي بدوره يكوّن المفاهيم والتصورات للمشاهد خلال مشاهدته، فالمتفرج يرى الفلم من خلال هذا العقل وما يطرحه من أدوات. وهذا الأمر الذي امتازت به السينما عن غيرها من الفنون فهي تحدد مسار الخيال لدى المشاهد فعندما يكون المشهد في قرية ما فالسينما لا تسمح للمشاهد بتخيل القرية كما تفعل الرواية والقصص بل تقوم بتحديد طبيعة القرية وعدد منازل سكانها وروتين حياتهم وتحدد مسافة البيت لك وحتى تحديد درجة لون السيارة أو قطعة الأثاث، لتتمكن من جعل المشاهد يفكر بتفكير العقل السينمائي والذي هو الفلم ذاته. فالعقل السينمائي هو الذي يسمح للمشاهد بعيش الدراما كتجربة ذاتيه له لا كعمل خارجي مرتبط بالمؤلفين أو المخرجين، وهذا ما يسمح للمشاهد بربط تصوراته الخاصة وتجاربه بالفلم ذاته.

هذان المفهومان الرئيسيان في الفيلموسوفي جعل من الفلم مادة خصبة للتناول عن طريق الفلاسفة؛ يذكر دولوز بأن المشكلات الفلسفية قادته للبحث عن إجابات لها عن طريق السينما إلا أنه وجد السينما قد ولًدت له مشكلات جديدة أيضاً. ففلسفة السينما تهتم بطرح أسئلة حول إمكانية السينما بتصوير الموضوعات والمشكلات وإعادة صياغتها وكيف بإمكانها توصيل الفكرة والشعور المقصود للمشاهد؟ كيف بالإمكان تصوير الذاكرة عن طريق الفلاش باك وكيف تصور حالة الشخصية العمياء عن طريق الكاميرا ؟ كل هذه التساؤلات تجعلنا نتسائل كيف تفكر السينما فلسفيا؟

 كيف يفكّر مسلسل Sharp objects فلسفيا؟ كيف يفكر بالتشابه في اختيار الألوان بين أزياء أدورا الأم والإبنة إيما ؟ كيف يفكّر بانتقاء ألوان ورق الحائط بالمنزل وتنسيقها مع ألوان أزيائهن؟ كيف يفكر في عرض مشهد أرضية الغرفة التي منعت الأم ابنتها الكبرى كاميليا من المشي عليها بالحذاء؟ هل لهذا علاقة مع أرضية الغرفة الصغيرة في لعبة ابنتها إيما المصنوعة من أسنان ضحاياها؟ كيف يفكّر في جعلنا نشعر بشعور كاميليا عند تذكر ماضيها؟ كيف استطاع أن يوصل لنا الشعور النفسي المضطرب الذي تشعر به؟ ماللقطات والأصوات وحركات الكاميرا التي ساعدت على ذلك؟.

 وكيف يفكر فلم ِAnna Karenina فلسفيا في مفهوم الحب؟ هل الحب هو الرغبة في الامتلاك؟ هل الحب هو مجرد حاجة؟ هل الحب هو شعور لحظي ناتج عن لحظات اللقاء بينهم في المناسبات؟ مالمفهوم الذي أراد الفلم أن ينقله للمشاهد عبر علاقة آنا بالكونت فرونسكي؟. وهل مفهوم الحب هنا كمفهومه في فلم the bridges of Madison Country ؟ والذي صوّر الحب ليكون احتواء لذات الطرف الآخر؟ هل الحوارات في هذا الفلم في ماضي وأمنيات كلا الطرفين كانت دلالة لتحديد هذا لمفهوم لدى المشاهد؟ هذه الحوارات التي فقدها فلم آنا فأبعدت هذا المعنى عن ذهن المشاهد؟ من هذين الفلمين؛ ظهرت لنا مقولة دولوز في أن السينما أظهرت له مشكلات جديده. فالفلمين السابقين أظهرا معضلة ماهية الحب؟ وكأن كل فلم عمل بعقله الفلسفي على تبني تعريفه الخاص تجاه هذا المفهوم وعمل على تقديم حجته الداحضة في تقديمه عن طريق الصوت والصورة – أدوات التفكير السينمائي-. من هنا نستطيع أن نتسائل: هل العقل السينمائي مشابه للعقل الإنساني؟ أم هو عملية محاكاة له؟ وهل تستطيع السينما مستقبلا أن تمتلك عقلها الخاص بها؟ .

لم تكتفي السينما بفلسفة المفاهيم والموضوعات وحسب؛ بل تناولت قضايا فكرية أخرى لتعكس للمشاهد كيف باستطاعتها أن تكون تجسيداً بصريا لأفكارنا ووعينا، وكيف بامكانها أن تمتلك زمام الأمور في تشكيل عقل المشاهد ورؤيته للعالم من حوله. فالسينما جسدت كيف أن وعينا يغلب عليه التفكير الجمعي والصور النمطية السائدة في الحكم على الأمور بل وفي التضامن معها دون معرفة الحقيقة. فالصورة الذهنية للمرأة بأنها الطرف المغلوب على أمره في العنف الأسري وتقبل صورة الرجل المعنف قد طغت على جميع مشاهدي فلم The Guilty ولم يكن هناك سببا منطقيا لتصديق ذلك. فالفلم ابتدأ بتلقي ضابط الشرطة اتصالات من امرأة تبكي – والبكاء هنا إيحاء مهم لتعزيز هذه الصورة- ثم تتوالى الاتصالات حتى يتلقى اتصالا من ابنتها التي تقول بأن أبي أخذ أمي وهي تبكي وأن هناك دماء في المنزل ثم تتوالى الاتصالات ليكتشف الضابط بأن الأب له تاريخ في متاجرة المخدرات. كل هذه الانتقاءات من الحكاية تجبر المشاهد على التضامن مع المرأة والتعاطف معها ثم تنكشف الحقيقة في النهاية لنكتشف بأن الأم التي تعاني من الاضطراب النفسي وانفصام الشخصية قد قتلت ابنها دون وعي منها وهذا ما جعل زوجها أن يأخذها إلى المصحة النفسية. والاستخدام ذاته في تجسيد الصورة الذهنيه حول الأطفال يعكسها لنا فلم the hunt حيث ادعت الطفلة كلارا بأن أستاذها لوكاس وصديق أبيها المقرب الذي يعمل في روضة أطفال قد عرض نفسه عليها بطريقة غير لائقة جنسيا. حيث قدمت شهادة غير واضحة إلى طاقم العمل الذي جزموا بأن كلارا لا تكذب أو كما قالت المديرة الأطفال لا يكذبون، الأمر الذي حول حياة لوكاس إلى جحيم. وحقيقة الأمر أنه لم يفعل لها شيئا وأنها خلطت بحادثة أخرى وهي عندما عرض عليها أخيها صورة إباحية كمزحة.

 

انتهى ... الجوهرة "