القراءة فن وجمالية في التلقي والمحاورة وتصنيف الأفكار والإبداع، يفتتن القارئ بالنص ويتلذذ بتلك المفاتن، وكما قيل: " النص القادر على إحداث تلك الرعشة الجميلة هو النص الذي يربك القارئ ويخلخل موازينه الثقافية والنفسية واللغوية، فهو يقتنص المتلقي بواسطة نظامه الدلائلي الخاص وبواسطة أحابيله الفنية المنصوبة". فتعيّن أن يجهز القارئ نفسه بفنون ومهارات تزيد من استمتاعه، وتحقق فوائده، وتقي الأحابيل، لذلك سننتشي بلقاء متفنن مع مبادر مبدع صانع مقنن للقراءة وجمالياتها..
نحن على ضفاف ساحتك الشخصية، فأمدنا بالمؤن:
الاسم: وضاح بن هادي سلطان، مواليد مدينة جدة عام 1404هـ - 1983م، متزوج ولي ثلاثة من الولد.
وإذا وصلنا رصيف حياتكم العلمية والمهنية فماذا سنجد؟
إذا تجاوزنا مراحل التعليم العام والتي كانت كلها بين مدارس مدينة جدة، فبعد تخرّجي أتيحت لي الفرصة للالتحاق بالدفعة الأولى في معهد الإمام الشاطبي بجدة، وحصلت على دبلوم في القراءات، ثم أتيحت لي الفرصة للحصول على دبلوم في الدراسات الفكرية، ثم دبلوم في الإرشاد الأسري من جامعة الملك فيصل بالأحساء، ثم دبلوم في الإرشاد التربوي من كلية الدراسات الحرة، ثم البكالوريوس في تخصص علوم القرآن، وأخيرًا الحصول على درجة الماجستير في علم النفس التربوي، وكانت رسالتي بعنوان : "العلاقة بين المربّي والمتربّي وكيفية تقليص الفجوة؟".
أما بالنسبة للمسيرة المهنية؛ فقد وفقني الله للعمل في عدة أعمال تربوية مختلفة من بينها العمل في التعليم العام، والذي امتد لما يُقارب تسع سنوات حتى وصلت إلى العمل كمدير عام لإحدى المدارس الخاصة.
وما بين كل تلك السنوات كان العمل التطوعي المجتمعي يسير جنبًا إلى جنب مع العمل الوظيفي، مما أكسبني المزيد من العلاقات والخبرات المتعدّدة، والأهم أنه زاد قناعتي بالتفرّغ التام لمشروعي التنموي الذي طالما حلُمت به، والذي رأيت أنه لا يقبل مزاحمة من أعمالٍ أخرى. وبالفعل كانت مؤسسة نقش المعرفة، والتي تُعنى بتقريب المعرفة، ونشر ثقافة القراءة وحُبّ الكتاب في مجتمعاتنا العربية .
وها أنا حاليًا متفرّغ بكامل وقتي وجهدي وفكري في تحقيق أحلامي المعرفية من خلال هذا الكيان، والذي يُعنى بتصميم وتنفيذ برامج ومشروعات القراءة، ونشر ثقافة القراءة وبناء العلاقة الحميمية ما بين الجيل والكتاب بشتى الوسائل الحديثة على مستوى الوطن العربي عمومًا.
يبرز المرفأ وفي فناره سؤال: لماذا القراءة تحديدًا؟
على ما أذكر أنّ بداياتي في تكوين علاقتي بالقراءة والكتاب لم تكن مبكّرة – كما أدعو إليه اليوم – ولم تكن أيضًا متأخرة كثيرًا، وإنما كانت في أواخر المرحلة المتوسطة، إلا أنّ ما يميّزها - ولله الحمد - أنها كانت بدايات موجّهة وذات صِبغة علمية، وذلك من توفيق الله لي أنْ حفّني بصحبة علمية صالحة وموجّهين تربويين كان لهم الفضل بعد الله في توجيهي والأخذ بيدي، فصحبتُ الكتاب، ووجدتُ في نفسي شغفًا يتنامى يومًا بعد آخر، حتى كنتُ أقتطع الريال والريالين من مصروفي اليومي لأشتري به بعد شهر أو سنة قائمة الكتب التي كنت أخطّط لشرائها، وواكب هذا أيضًا حضوري لمجالس العلم، والدروس التي كانت تُقام في جدة أو مكة والمدنية أو حتى في الإجازات الصيفية، ورافق هذا أيضًا قراءة دائمة ومصاحبة للكتب التي يعيش معها القارئ حياة الأماجد من علماء السلف والخلف وسعيهم ومكابدتهم الليالي والأيام في طلب العلم والسير في تحصيله؛ ككتابي الشيخ عبد الفتاح أبو غُدّة رحمة الله عليه : "ٌقيمة الزمن عند العلماء" و"صفحات من صبر العلماء"، وقد لازمت هذين الكتابين ولا زلت أضعهما كالوسادة عند رأسي، أنظر فيهما كلما فترت همّتي في طريق العلم والتحصيل والعمل على تقريبهما للشباب والناشئة ..
وهنا أجدها مناسَبَة للقول : بأن مَن لم يبدأ مبكرًا في تحبيب القراءة لنفسه، أو لم ينشأ في أسرة تُحبّب إليه القراءة وتربطه بالكتاب؛ فليس عسيرًا أن يرتبط بها بعد ذلك، متى ما آمن بأهمية القراءة والعلم، ثم وجد الصُحبة والموجِّه الذي يأخذ بيده وينير له الطريق للتدرّج في سلالم هذا العالَم الكبير.
دقائق استرخاء مع الأحلام والطموحات:
أحلامي وطموحاتي كانت ولا زالت ولله الحمد تتنامى يومًا بعد آخر وأنا أرى حاجة أمتي تتزايد للأخذ بيد الجيل الصاعد إلى محاضن العلم وتملّك القوة المعرفية التي أَمَرَنا الله بها في كل عصْرٍ ومِصْر، كما في قوله تعالى : {وأعِدُّوا لهم ما استطعتم مِنْ قوّة}، ورحم الله الإمام ابن سعدي حين وقَفَ مع هذه الآية في تفسيره، فقال : "أي وأعدّوا لأعدائكم الكفّار الساعين في هلاككم وإبطال دينكم ما استطعتم من قوة أي : كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يُعين على قتالهم".
فأنا أحلُم وأعمل على عودة قريبة - بإذن الله - لإعادة أمة اقرأ إلى اقرأ .. أحلُم وأعمل على أن تُصبح المكتبة في بيوتنا كما هي الغسّالة والثلاجة .. أحلُم وأعمل على أن يأتي اليوم الذي يُفضّل أطفالنا فيه الكتب كهدية على الحلوى واللُعَب .. أحلُم وأعمل على أن يعود الكتاب خير جليسٍ لشبابنا بدلًا من خير تعيس .. أحلُم وأعمل على أن يتعامل شبابنا مع القراءة كأنها فرض عين بدلًا من التعامل معها كباقي الهوايات .. أحلُم وأعمل على أن يكون الكتاب هو الذي عليه نجتمع وبالتواصي عليه نفترق ..
سنضيف إلى أمتعتنا مؤلفاتك، فأحطنا بها..
فكرة التأليف والعمل على إخراج شيء من المؤلفات لم تنشأ معي بتخطيط مسبق، وإنما كانت ابتداء استجابة لحاجة وطلب كنت ألمسهما بشكل دائم ومستمر من المستفيدين الذين أُقدّم لهم الدورات المتخصّصة في مهارات القراءة وحُبّ الكتاب؛ فكان السؤال من الشباب دائمًا عن الكتب التي تحفزنا للارتباط بالقراءة؛ فأخرجت أولا كتاب "متعتي في قراءتي" ثم كتاب "تجربتي في القراءة" ثم كتاب "مقالاتي في القراءة"، وكان السؤال من الآباء والأمهات عن أهم الخطوات والوسائل والتجارب العملية في تنشئة أبناء قرّاء؛ فكان أولا كتاب "أطفالنا والقراءة" ثم كتاب "أسرة تقرأ" ثم أخيرًا كتاب "كشكول الأسرة القارئة"، وكان السؤال من المربين والمربيات عن أهم الكتب التي تُسهم في بنائهم المعرفي وتطوير كفاءتهم التربوية؛ فكان كتاب "ثقافة المربي"، والذي رسمت فيه خطّة متكاملة في البناء الشرعي والتربوي والثقافي لكل مَن يُمارس العمل التربوي مع الشباب أو الناشئة. ثم ومن باب المساهمة في الارتقاء بمستوى قراءات الأطفال والناشئة والشباب، بحيث تتحول قراءاتهم من قراءات مجرّدة إلى قراءات نافعة ومنتجة ومثمرة؛ فأخرجت لهم ثلاث مفكِّرات بأسلوب إبداعي وجذاب وسهل في التعامل معه، فأولا كانت "مفكرة القارئ المبدع" ثم "كنّاشتي" بتصميم خاص للشباب وآخر للفتيات.
والحمد لله ألحظ إقبالا كبيرا على مثل هذه المنتجات سواء بعد كل دورة من الدورات التي أُقدّمها، أو من خلال الأسر الحريصة والمجموعات القرائية الراغبة في نشر وتعميم مثل هذه المنتجات لروّادها والمستفيدين من برامجها.
ثمة رافعات ترفع لوحة منقوش عليها: (مؤسسة نقش المعرفة) فما هي هذه المؤسسة؟
في إطلالة سريعة على مسيرة مؤسسة نقش المعرفة وأبرز الخدمات والمشروعات التي تنفذها وتقوم عليها المؤسسة؛ فالمؤسسة كيان تجاري أنشئ قبل أربع سنوات، ومن حين إنشائه لله الحمد وهو يُسهم في تصميم وتنفيذ العديد من المشروعات المعرفية والثقافية والتي تُعنى بنشر ثقافة القراءة في المجتمع وعلى مستوى كافة الشرائح العمرية، سواء من خلال تصميم المشروعات التي يُلّح المجتمع لحاجته إليها، أو من خلال الشراكة الفاعلة مع المؤسسات المانحة والجهات الداعمة والمتبنية للمعرفة ونشرها في المجتمع، ومن أهم تلك المشروعات:
الدورات التدريبية: فالمؤسسة ولله الحمد تُقدّم 16 حقيبة تدريبية متخصصة في مهارات القراءة المختلفة، ولعموم شرائح المجتمع، من ذلك : دورة مهارات القراءة المثمرة، ومهارات التلخيص، ومهارات القراءة السريعة، ومهارات بناء المكتبة الذاتية، ومهارات بناء القراءة المنهجية، ومهارات الكتابة الإبداعية، ومهارات الخرائط الذهنية واستخداماتها في القراءة، ودورة صناعة الأسرة القارئة، ودورة ثقافة المربي والبناء المعرفي، ودورة تطبيقات القراءة الإلكترونية مزايا وعيوب ... وغيرها من الدورات.
مؤسسة أندية القراءة الشبابية : وقد ساهمت المؤسسة ولله الحمد في تصميم 13 نادٍ قرائي داخل المملكة وخارجها، من خلال تصميم ملفات متكاملة لتأسيس الأندية القرائية، وذلك برسم الرؤية والأهداف الواضحة، والخطط القرائية الممنهجة، والبرامج النوعية التطوعية التي يقوم عليها أفراد النادي.
مشروع سجينٌ يقرأ : وهو أحد المشروعات النوعية التي تمت الشراكة فيها بين المؤسسة وجمعية رعاية السجناء، وهو يستهدف النزلاء من الأحداث والشباب داخل سجون المملكة، للارتقاء بهم من الناحية التربوية والثقافية، وبناء الوعي المعرفي لديهم، لجعلهم لبِنات نافعة في مجتمعاتهم بعد خروجهم.
مشروع صمّم مكتبة طفلك من خلالنا : وأستطيع القول أن هذا المشروع هو المشروع رقم واحد لدينا في المؤسسة، والذي من خلاله نلبّي تطلعات الأسر والأطفال معًا في توفير مكتبة متكاملة، تحوي الأرفف الأنيقة والجذّابة للأطفال، بالإضافة للكتب المناسبة لمرحلة الأطفال العمرية، وليس سرًّا أنْ أقول أننا تجاوزنا بيع الـ5000 مكتبة ولله الحمد، والتي تم توفيرها للأسر والمدارس الحريصة على إدراج قيمة القراءة في أعلى سُلّم أولوياتها .
مشروع إعادة تأهيل المكتبات المدرسية : وهو مشروع متكامل يُعيد للمكتبة المدرسية دورها الريادي والمأمول؛ يبدأ من إعادة تأهيل المكتبة بالديكور الجذّاب والملائم للشريحة المستفيدة، ثم توفير الكتب التي تتناسب مع مستوى وعمر الشريحة المستفيدة، ثم بعدها يتم العمل على تقديم برامج تنشيطية أثناء وبعد الدوام المدرسي للاستفادة المُثلى من المكتبة ومحتوياتها.
ديوانية نقش : وهو أشبه بالملتقى المعرفي الأسبوعي، الذي يلتقي فيه جَمْع من الشباب القرّاء الراغب في مشاركة قراءاته مع قرّاء آخرين، ويتم هذا من خلال تحديد قائمة من الكتب القرائية في شتّى المجالات المعرفية، ويُحدَّد موعد أسبوعي لمناقشة تلك الكتب وما حوته من أفكار ورؤى.
المشاركات في معارض الكتب العربية : وتتعدّد مشاركاتنا في معارض الكتب العربية، ما بين إتاحة خدمة توفير الكتب حسب طلبات المتابعين، وتصميم الأدلة العملية للاستفادة المُثلى من المعرض، وكذلك تصميم البرشورات التوعوية (إنفوجرافك) وتوزيعها على زوّار المعرض.
ولا أنسى أنْ أقول بأن المؤسسة لا زالت تعمل يومًا بعد آخر على تطوير وتنويع مشروعاتها وبرامجها ومنتجاتها، وتفتح أذرعتها بكامل خبراتها المتوافرة ضمن فريق عملها للمؤسسات المانحة والجهات الداعمة الراغبة في المساهمة والارتقاء بمجتمعاتنا العربية ثقافيًا وفكريا ومعرفيا.
نرى عوامتين بشاطئكم عقبات وتحديات؛ فحدثنا عنهما
مما لا يخفى أن أيّ مشروع أو هدف نسعى لتحقيقه إلا ويقف أمامه العديد من التحديات والعقبات، وكما قيل : "، إلا أن إيمان الشخص بمشروعه وشغفه به واستشارته الدائمة لأصحاب الخبرة يُعتبر أكبر دافع بعد توفيق الله تعالى على الاستمرارية والمصابرة لأجل تحقيق تلك الرؤية، ومع مرور الأيام سنجد أن كثيرًا من تلك العقبات قد تحولت إلى عوامل نجاح.
وأحسب أن أكبر تحدٍ واجهته في طريق تفرّغي لمشروع نشر حُبّ المعرفة وثقافة القراءة في مجتمعاتنا العربية؛ يتمثّل في نظَر الكثير من المؤسسات والأسر والأفراد إلى أن القراءة أمرٌ يُعدُّ فضلة، ليس ذا شأن مهم في رُقي وتقدّم الأفراد والمجتمعات، وهذا يجعلنا نبذل المزيد من الوقت والجهد داخل إطار المربع الأول، بدلًا من التفرّغ التام لإحداث أفكار ومشروعات ملهمة في الترقّي بمستوى تلك القراءات وإنضاجها، وتحويلها من قراءات سطحية استهلاكية فوضوية إلى قراءات عميقة ومنتجة.
إلا أنني في الوقت نفسه – وعلى الأقل على مستوى المجتمع الخليجي – ألمس في الآونة الأخيرة نقلة كبيرة وعودة مشهودة ومبهجة على مستوى الصِغار والكبار والأسر والمدارس للاحتفاء بالكتاب وجعل القراءة عادة تُمارس على مستوى المجموعات الشبابية وفي الأماكن العامة وعبر منصات التواصل الاجتماعية المختلفة.
خاتمة الحوار المحفز معكم.. شاكرين لكم...
ختامًا : دائمًا ما أحمد ربّي على أجلّ وأعظم منّة أنْ جعلَني من أمّة اقرأ، وأسأله دومًا أنْ يجعلَني سببًا في إعادة أمّة اقرأ إلى اقرأ. وأكرّر شكري وامتناني لمجلتكم المباركة لإتاحة هذه الفرصة.