هل تحمى العلمانية الحريات الفردية؟

هل تحمي العلمانية الحريات الفردية؟

علي جابر المشنوي، باحث دكتوراه في القانون المقارن بجامعة واشنطن أمريكا، مهتم بالقضايا الفكرية.

(١)

أصبح في حُكم المسلّم به عند كثير من الناس - مثقفين ومُتلقين - أن الحُكم العلماني يُعطي الحريات الفردية مساحة واسعة جداً، فيُقال إن النظام العلماني يحترم الحريات الفردية والدينية ما دامت تلك الحريات لا تؤذي الآخرين، أو بمعنى آخر: في النظام العلماني تنتهي حريتك عندما تبدأ حريات الآخرين.

هذا الشعار يحضر كثيراً في أطروحات المُنادين بالعلمانية والرافضين لها على حدٍ سواء. فيقدمه الطرح العلماني بصفته مَمدحة يُفاخر بها، ويعتبرها سبباً كافياً لتبني الخيار العلماني، لأنه بناء على ذلك فإن جميع أفراد الشعب سيكونون على درجة واحدة في المعاملة وسيمارس كل واحد ما يشاء من الحريات والقناعات الفردية ما دامت تلك الحريات والقناعات لن تُكبل حرية المُختلف معك من أبناء الوطن الواحد أو تؤذيه. ويقدمه المسلم الرافض للحكم العلماني بصفته مَذمة ومنقصة وسبباً كافياً لرفض الخيار العلماني لأنه خيار يساوي بين الحق والباطل فيعطي للزاني حريته في ممارسة الرذيلة ولشارب الخمر حرية شربها وهكذا.

(2)

في هذا المقال سوف أناقش هذه القضية التي تُقدم كمُسلّمة في بعض أطروحات الفريقين السابقين وهي : هل تحترم العلمانية الحريات الفردية والدينية ما دامت تلك الحريات لا تؤذي الآخرين ؟ الإجابة : لا ! وقبل الخوض بتفصيل وتدعيم هذه الإجابة، فإني أود ابتداءً التنبيه إلى أن هذا المقال يهدف بالدرجة الأولى أن يكون محتواه في متناول أفهام القراء قدر المستطاع، وبالتالي فلن أتطرق لأطروحات مُنظري العلمانية، والفلسفة النظرية العلمانية، وإنما سأكتفي بذكر مثالين واقعيين من دولتين علمانيتين – أمريكا وفرنسا - وبناء على هذين المثالين ستتضح الصورة.

(3)

الولايات المتحدة الأمريكية : ولاية يوتا (Utah) هي الولاية الخامسة والأربعين في الولايات المتحدة، وقد انضمت إلى الولايات المتحدة الأمريكية في يناير 1896، وتُعرف هذه الولاية بأنها ولاية المورمن (أتباع جوزيف سميث) [1] حيث هاجر إليها عدد كبير من المورمن بعد قتل جوزيف سميث واستقروا فيها. ولكن.. ما قصة انضمام ولاية يوتا إلى الولايات المتحدة ؟ في القرن التاسع عشر قدمت الولاية طلباً بالانضمام، ولكنه قوبل بالرفض من الكونجرس الأمريكي ! لماذا ؟ لأن ديانة المورمن تُجيز تعدد الزوجات (Plural marriage or Polygamy) بينما يعتقد أعضاء الكونجرس أن هذه الممارسة خاطئة، وبناء على ذلك رُفض طلب الانضمام، وبقيت "يوتا" خارج الاتحاد الأمريكي إلى أن أصبح Wilford Woodruff رئيساً لكنيسة المورمن، وكان من الخطوات التي اتخذها هذا الرجل، أن أصدر بياناً رسمياً في 1890 (1890 Manifesto) يمنع ويُجرم تعدد الزوجات مستقبلاً[2] في عام 1895 قدمت يوتا طلباً جديداً بالانضمام إلى الولايات المتحدة، وفي 1896 وافق الكونجرس على هذا الطلب، وفق شروط معينة على رأسها أن يكون المنع من ممارسة تعدد الزوجات مكتوباً في دستور الولاية ! وقد استجابت الولاية لذلك.[3] تعدد الزوجات – باختصار- هو اتفاق يجمع أكثر من امرأة مع رجل بعقد زواج. فالموافقة من الجميع وليس هناك إجبار لأحد الأطراف، كما أن تعدد الزوجات لا يتعدى على حريات الآخرين ولا يضر أي أحد خارج محيط الاتفاق، وبناء على ذلك، فإن تعدد الزوجات يدخل في الحريات الفردية التي لا تؤذي الآخرين، وهي التي تحترمها العلمانية كما يتداول في الأطروحات المروجة أو الرافضة لها على السواء ! فلماذا إذن تُمنع هذه الممارسة ؟ ولماذا تُعد هذه الممارسة ذات أهمية كبرى إلى الحد الذي يجعل مجلس الشيوخ الأمريكي يرفض انضمام ولاية كاملة إلى الولايات المتحدة بسبب ممارسة أهالي هذه الولاية لهذا العمل ؟ إن القانون الأمريكي العلماني الذي يُجرم تعدد الزوجات هو نفسه الذي لا يمنع بعض الممارسات المتطابقة مع تعدد الزوجات مثل ما يسمى بـ Threesome or Foursome ما دامت هذه العلاقة مبنية على التراضي بين جميع الأطراف ! فما هو سبب المنع والتجريم في الأول، والسماح في الثاني؟

(4)

فرنسا : تُقدم فرنسا نفسها ويقدمها المتبنون للخيار العلماني بصفتها دولة العلمانية ورائدة التنوير. فهل واقع الحكم العلماني الفرنسي يحترم الحريات الفردية والدينية ما دامت لا تؤذي الآخرين ؟ في عام 2010 تزوجت امرأة جزائرية برجل فرنسي وانتقلت للعيش معه في فرنسا، وفي نفس الوقت قامت بطلب الجنسية الفرنسية، وقامت هذه المرأة بتنفيذ جميع الخطوات المطلوبة للحصول على الجنسية، وفي بداية هذه السنة (2018) كانت تستعد للحصول على الجنسية، ولكن بسبب تصرف قامت به فقد مُنعت من الحصول على الجنسية ! قامت هذه المرأة بالرفع لمحكمة الاستئناف ولكن المحكمة أيدت المنع واعتبرته قانونياً. فما الذي فعلته هذه المرأة ؟ كل ما فعلته أنها رفضت مصافحة أحد الرجال في أحد الاجتماعات ! وقد بررت تصرفها بأن ديني ينهاني عن ذلك. فكانت الخطوة المُقابلة أن مُنعت من الحصول على الجنسية ورُفض طلبها![5] أليست العلمانية -كما يقال- تحترم الحريات الفردية ؟ أليس من حقي أن أصافح مَن أشاء وأمتنع عن مصافحة مَن أشاء ؟ هل في امتناع الأنثى عن مصافحة الرجال إيذاء للآخرين ؟ أليست يدها جزءاً من جسدها ؟ أليس بناء على احترام العلمانية للحريات فإن من حقها أن تسمح لمَن تشاء وأن تمنع مَن تشاء من لمس جسدها ؟ لماذا يسمح القانون العلماني الفرنسي بالتقبيل بين الرجل والمرأة ما دام الطرفان متفقين ويعتبر أن من حق الرجل أو المرأة الامتناع عن تقبيل مَن لا يريد لأن ذلك جزءاً من الحريات الفردية : بينما في قضية المصافحة يرفض هذا الامتناع ويجعله سبباً لرفض طلب الحصول على الجنسية ؟ هنا يتبين بجلاء أن العلمانية لا تحترم كل الحريات الفردية، وأن ما يُرَدد من أن الحريات الفردية مكفولة في النظام العلماني ما دامت تلك الحريات لا تؤذي الآخرين : هو قول خاطئ ! والأمثلة أعلاه تدل على بطلانه.

(5)

حسناً ما هي الحريات التي يكفلها النظام العلماني ؟ وكيف يمكن فهم النظام العلماني في تعامله مع الحريات ؟ وكيف نفهم السماح بالحجاب - مثلاً - والصلاة وإقامة المساجد وغيرها من الشعائر الدينية التي تكفلها هذه الدول العلمانية ؟ العلمانية منظومة متكاملة تقوم على أسس ومبادئ – ليس هذا محل سردها – حيث يعتني النظام العلماني بتحقيق هذه الأسس والمبادئ وفرضها على الأرض التي يحكمها حتى تكون هي المبادئ والأسس العليا فوق سواها، ثم بعد ذلك هي تقبل من الأديان والأفكار والممارسات والحريات الفردية والدينية ما يتوافق مع أسس ومبادئ العلمانية، وترفض وتمنع ما يختلف معها ! فالعلمانية لا تسمح للمسلم أن يمارس دينه، لكنها تسمح للمسلم أن يمارس من دينه تلك الأجزاء التي تستوعبها العلمانية وتسمح بها ! إذا استوعبنا هذا فسوف نفهم كيف تسمح دولة علمانية مثل أمريكا بعلاقة تقوم بين رجل وأكثر من امرأة ما دامت تلك العلاقة بالتراضي : لكنها في المقابل تُجرم تعدد الزوجات مع أنه يقوم على نفس الفكرة ! [6] وسوف نفهم كيف تعتبر فرنسا لمس أي جزء من جسد المرأة بدون إذنها تعدٍ سافر على حريتها وتحرش يستحق العقوبة لكنها في المقابل : تعتبر امتناع امرأه عن مصافحة رجل سبباً كافياً لمنعها من الحصول على الجنسية ! العلمانية دينٌ – إن صحت التسمية – له مبادئه ومقدساته وحدوده وأسسه. وفيه ولاء وبراء. وهو يقبل من الأفكار والممارسات والحريات ما يتفق معه وما لا يتجاوز تلك المبادئ والأسس والمقدسات. وأما ما سوى ذلك : فهو يُمنع ويُجرّم ! ويُحارب بضراوة تحت شعارات عديدة كحقوق الإنسان، والعدل، والمساواة، والتطور، والحداثة وما إلى هذا.

المراجع :

[1] Church of Jesus Christ of Latter-day Saints

[2] تجده هنا : https://www.lds.org/scriptures/dc-testament/od/1?lang=eng

[3] المادة الأولى، الفقرة 29. للاطلاع هنا : https://le.utah.gov/xcode/UC_1800010118000101.pdf

[4] وهو علاقة جنسية بين امرأتين أو أكثر وبين رجل.

[5] https://www.bbc.com/news/world-europe-43839655

[6] أقصد فكرة العلاقة بين رجل من جهة وأكثر من امرأة من جهة، وإلا فإن تعدد الزوجات يختلف عن العلاقات غير الشرعية بين رجل وأكثر من امرأة كما يختلف النكاح عن السفاح.