الإنسان يبحث عن المعاناة !
د. شيخة المطوع، أستاذة الحديث المساعد، الكويت
(وانظر : مترجم : العنود العنزي – مقال لمياء الغيث)
أبدع الدكتور فكتور فرانكل في كتابه الماتع : (الإنسان يبحث عن معنى) في تصوير المعاناة الإنسانية على أنها هبات ربانية تجعل لحياة الإنسان معنىً وغاية، وقد دعمه بقصة حياته في معسكرات النازية، وكيف أنه استطاع أن ينجو بحياته ويستعيد صحته النفسية في ظل قساوة الظروف لأنه كان يعتقد أن معاناته ستخلق منه شيئاً مميزاً، وهذا ما حدث بالفعل. فبعد أن خرج من غياهب معسكرات الاعتقال أخذ يعالج مرضاه بهذه النظرية، وكان يريهم الصورة المشرقة للمعاناة، والحكمة من وجودها ...
يؤسفني جداً أن يفهم هذا الدكتور الغربي اليهودي المعنى من المعاناة، ويتلذذ بذكر مردودها النفسي، وحاجة الإنسان الملحة لها، ويوجه الناس لأن يبحثوا عن الحكمة التي ساقتها الأقدار لهم، ويتفكروا في النعم المتنكرة بلباس النقم ؛ في حين نجد مِن أبناء جلدتنا ومِن إخواننا في ديننا مَن يتبرم مِن الأكدار والأقدار، و يضيق ذرعاً بأنواع البلايا والرزايا، ويتنكر للخير المرجو من ورائها، ويحاجج ويجادل ويقول بملىء فيه : “ أين الله إذن ” ؟! فسبحان الله ! السبب الذي يقود الإنسان إلى شدة التعلق بربه والفرار إليه، هو نفسه ما يجعل المرء يجحد بالله ويفر من التصديق به والإذعان إليه ! وهو مصداق حديث المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه : " فمَن رضيَ فله الرضا ومَن سخط فله السخط". (رواه الترمذي في سننه وحسنه).
عزيزي الساخط : انظر إلى حال هؤلاء المُبتلين ممَن فهموا المعنى من البلاء وهم يرفعون أكف الضراعة في الحروب الطاحنة بعد أن قُتّلوا وشُرّدوا وتفرقوا وهم يرددون بأعلى صوتهم : " مالنا غيرك يا الله " ! انظر إلى حال ذلك المعاق الذي فقد رجليه وذراعيه وهو يتقلب في السعادة قائلاً : “ خلقني المولى بهذه الكيفية لألهم الناس وأريهم النعم التي يتمتعون بها وهم عنها غافلون ” ! واسمع قصص الناجحين والمبدعين تجدها ملأى بالمعاناة التي أنجبت إبداعاتهم وشكلت تميزهم في ذلك، يقول ابن القيم : " إذا كانت الآلام أسباباً للذاتٍ أعظم وأدوم، كان العقل يقضي باحتمالها ". بل إنني أزعم أن الله قد ركب في نفوسنا البشرية الرغبة في المكابدة والمجاهدة والبحث عن المعاناة نفسها، ويدعم زعمي قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } سورة البلد 4.
لذلك ترى المُرفهين المُترفين يصابون غالباً بالكآبة والسآمة لأنهم لم يُفعّلوا تلك الخصيصة التي أودعها الله فيهم. وتراهم يبحثون عن المعاناة في قصص يختلقونها وهمية، أو صراعاتٍ تافهة سطحية، ويفتعلون الشجارات، ويخلقون جواً من المشاحنات، بل وصل بهم الحال للتشكيك في المُسلَّمات والاعتقادات ! وهناك من المُترفين المُميزين مَن يبحث عن معاناة غيره ويعيش همه ويعتقد أن جمال حياته متمثلة في إسداء المعروف لهم وتفريج كربهم. ولذا فإني عندما قرأت كتاب فرانكل رأيت أن الاسم الأنسب لكتابه ربما : " الإنسان يبحث عن المعاناة " ! المعاناة هي التي تصنعنا وتشكلنا وتجعل منا أشياءً ذات قيمة.. فإن لم تجد المعاناة في حياتك فأوجدها في نفسك. ابحث عن التحديات التي تجعل منك إنساناً أفضل أو اصنعها لنفسك لتذوق المتعة في حياتك، والتي لن تصل إلى غايتها إلا إذا عرفت أضدادها وبضدها تتميز الأشياء. أو كما قال النورسي : " إنما تعرف الأشياء بأضدادها، فلولا تجربة الحاجة : لما كان في الكسب لذة. ولولا تجربة العجز : لما كان في القدرة لذة. ولولا العِلة : لكانت العافية بلا لذة ".