الذاكرة النباتية والذاكرة المعدنية

"الذاكرة النباتية، والذاكرة المعدنية"

 رؤى مؤسسي الصناعة السعودية لتفعيل رؤية (2030)

د. فضة العنزي، قسم العلوم الإنسانية بجامعة الملك سعود بن عبد العزيز للعلوم الصحية، الرياض.

ابتداءً لا أخفيكم استعارة بداية عنوان المقال من عنوان محاضرة للناقد الأدبي والفني "السيموطيقي" ذو الجنسية الإيطالية "إمبرتو إيكو"، والذي أقرأ عنه لما ترجم له من كتب إلى العربية خلال بحثي المتواصل في مناهج الهرمونطيقا ونظريات التفسير والتأويل، هذا الناقد المهتم كثيراً بتقنيات وثورة الصناعة والاتصالات المعاصرة ومحاضرته التي ألقاها في بلد عربي كبير هو "أم الدنيا" بحق؛ في مصر، وذلك حين قام بزيارة إلى مكتبة الإسكندرية عام 2003، هذا الرجل الذي يعرفه نقاد الأدب في العالم كله وعشاق الروايات على وجه التحديد، فكما هو واضح من عنوان المحاضرة التي استهل زيارة مكتبة الإسكندرية بها أنه يقصد نقلة صناعية من نوعها، وهي نقلة الكتاب الورقي إلى الكتاب الإلكتروني، والذي من أنواعه الصناعية القرص المدمج.

هذه النظرة التي أدرك بها ضيف الإسكندرية أهمية التفرقة بين ثلاثة أنواع من تسجيل الذاكرة: الذاكرة العضوية المكونة من لحم ودم، حيث مركز التحكم والإدارة فيها هو "المخ".

الذاكرة النباتية التي تمثلت في البرديات الأولى من الورق والتي تطورت إلى أن وصلت إلى الكتاب الورقي.

الذاكرة الصناعية المعدنية التي تبدأ من ألواح الطين وحجارة أعمدة المسلات، وتنتهي إلى الرقائق الإلكترونية في ذاكرة الحاسوب الآلي والتي تعتمد في صناعتها على السيليكون.

وليس بعيداً عن تساؤلات العقل بعد محاضرة "إيكو" في جعله يطرح فرضياته المتسائلة عن مصير الكتاب الورقي الذي كان يملأ المكتبات النباتية بالأمس -على حد عنوان إيكو- إلى بشارات العقل الصناعي الذي ارتفع بالحرفة الصناعية إلى سقف المعرفة، والتي تدفعه إلى السيطرة على الكون العولمي المعلوماتي عن طريق قوة المعرفة التي وهبها الله لهذا الإنسان المدرك، والتي تجعله يكتسح الكون بثورة المعرفة الصناعية، وذلك في صعود نحو ردم الفجوة بين المعرفة النظرية والصناعية، والتي تتجه العلاقة بينهما نحو التكامل والتعاون والتشابك والتقاطع من غير أن يلغي أحدهما الأخر إلغاءً تاماً، بل علاقة التعاون والتكامل والمساندة والانطلاق، وهو ما يعنى التأكيد على الحقيقة التي يعلنها لنا تاريخ الثقافة المعرفية، حيث لم يحدث أن قام شيءٌ بالقضاء التام على شيءٍ أخر، وإنما يضيف إليه، ويفتح آفاقاً لم تكن موجودة من قبل رغماً عن التحديات التي تواجه هذه الثقافة؛ والتي تولد بطبيعة الحال سبل مواجهتها.

وهكذا جاءت هذه المقدمة لعنوان محاضرة "إمبرتو إيكو" وكأنها رؤيا صناعية نقلتنا من الذاكرة النباتية إلى الذاكرة المعدنية، والتي كان نموذجها التطبيقي هو "الكتاب" ليصف مستقبل الكتاب من منظور صناعي، وذلك ربما لإدراكه ما تحتاجه الشعوب العربية لتزدهر صناعياً كما ازدهرت معرفياً -بحسب ما أظن-.

ونجدنا اليوم في وطننا الغالي على أعتاب رؤية ذات محاور كبيرة عظيمة واعية نحو بديل يضمن - بحول الله وقوته - المساهمة في الازدهار المعرفي والصناعي في آن واحد، كبديل للبترول، تساهم في تحقيق رؤيته قطاعات مهمة على رأسها الجامعات ذات المناهج المتعددة والأهداف والرؤية المستقبلية لكل منها، هذه الجامعات التي هبت سريعاً لتعقد الندوات والمؤتمرات.

ولعل من أقربها مؤتمر "دور الجامعات السعودية في تفعيل رؤية "2030" المقام في بعض الجامعات.

هذه الجامعات التي أصبحت بعد إعلان الرؤية تؤكد في مخرجاتها على مجال “التدريب الصناعي” الذي يحترف المهن الحرفية الشريفة، والتي سوف تساهم في القضاء على البطالة -بلا شك -.

ومما يمكن قوله للتاريخ فقط: إن هذه خطوات جديدة لرؤيا قديمة قبل 2006 تقريباً استلهمها وأدركها أصحاب الخبرة والاختصاص، والملهمون ممَن قامت تنمية الوطن وازدهاره بعد الله على أياديهم في كل المجالات، ومنها المجال التنموي الصناعي، من أمثال نماذجنا السعودية المسلمة المتواضعة الطموحة ذات الخلق الكريم والوطنية العالية، ممَن أعلنوا عن وجوب (تغيير مناهج التدريس في الجامعات السعودية -مع اعتزازهم بها وتقديرهم لها– وما تخرجه من تخصصات نظرية موضحين حاجتنا اليوم إلى حرف ومهن يتعلمها ويتدرب عليها شبابنا).

 داعين إلى ردم الفجوة، وسد الهوة بين مخرجات هذه الجامعات ومتطلبات سوق العمل وربط هذا كله بما يخدم المجتمع.

ويدعون إلى التفاعل الإيجابي بتعزيز روح المبادرة والتأكيد على شرفية المهن الصناعية الحرفية التدريبية، متسائلين: لماذا العزوف عن الحدادة والنجارة...؟ قائلين: “هذه ليست عيباً. هي خيرٌ من البطالة".

وفي رؤيتهم الصناعية الموجهة إلى الجامعات السعودية والمكللة بكل الدعوات: "أن يهدي الله الشباب السعودي الطموح ويتقبل فكرة التوجيه والتدريب".

مؤكدين على أهمية الانطلاق من ذوات الشباب أنفسهم في تعزيز فكرة الطموح والصبر، موجهين إلى ضرورة التكاتف المجتمعي من جامعات ورجال أعمال ودولة في دعم وتشجيع هؤلاء الشباب الذين بسواعدهم تجسد أفكارهم النيرة؛ فيرتقي ويسمو الوطن ليحقق هذه الرؤية.

والتي لا ننكر لحظة أنها اليوم هي جزء لا يتجزأ من رؤية "2030" الطموحة والتي كان من محاورها (اقتصاد مزدهر، بجانب مجتمع واعي ووطن طموح).

والتي كانت بصيرة المخلصين من أبناء الوطن الذين ساهموا بكل ما أوتوا من قوة فكرية وبدنية في بنائه ممَن لمحوا الجانب الصناعي من هذه الرؤية مبكراً وإن غابت عيونهم عن الدنيا، فقد وصلت أفكارهم إلى منصات التطبيق على أرض الواقع وإن توارى جثمانهم تحت الثرى.

مدركين وبعمق أن الصناعة هي حضارة خارجية، وأن الثقافة والمعرفة هي البنية التحتية لهذا الرقي الحضاري الذي من صوره النهضة الصناعية، والتي تؤدي إلى رفع كفاءات ومخرجات التعليم وتأهيل الطلاب علمياً، وثقافياً، وفنياً، وحرفياً، وتدريبياً، وتعزيز مبدأ الإيجابية، وأخلاقيات المهنة من إخلاص وأمانة، وصبر، ومثابرة ليتمكنوا من تلبية متطلبات قطاعات العمل؛ حكومي وخاص، وبذلك تكون الجامعات خطت خطوة جلية نحو الارتقاء بالمجتمع ليؤدي دوره في تنمية الوطن بالشكل المتزن بسواعد أبنائه المفكرين والمحترفين.

ولتجعل في نفس كل فرد مثقف رؤية ثاقبة مبعثها الضمير المخلص الذي ينشد رفعة ورقي وطن يستشعر مركزه وثقله الديني والثقافي في قلب العالم كله.