علم الأعصاب المعرفي
رضا زيدان، باحث في فلسفة اللغة والعقل وعلوم الحديث والترجمة
لقد أشعل التنوير الأوروبي عملية تحول ثقافي اجتماعي كبير، وهذه العملية "يمكن تعريفها بدقة بالنزعة الثلاثية: الفردية، والعلمانية، والعِلموية"[1] إذ الحال أنه لا يمكن فصل تلك العناصر عن بعضها، فإعلاء الحقوق الفردية أو الحرية القيمية للفرد يُضعف إلى حد كبير جداً القيم الأساسية في المجتمع (الدينية والثقافية[2]) إذا لم يشجع على الخروج عليها. وهذا يدفع إلى البحث عن أساس تشريعي جديد يحل محل القيم الدينية والثقافية القديمة، وبالطبع كانت العلمانية. ونتيجة لذلك "حلت مفاهيم عقلانية وعلمية المفاهيم الدينية في العالَم الاجتماعي"[3].
والتمجيد الشديد للمفاهيم العلمية هو العِلموية. إن الملمح الرئيس للفلسفة الحديثة هو "العزم على تأسيس العلم". فالفلاسفة المُحدثون "عِلميون في موقفهم العادي، في مقابل الميول الاستاطيقية التي تتكرر بكثرة عند الفلاسفة القدماء، والاهتمامات اللاهوتية المسيطرة عند المدرسيين في العصور الوسطى... وفي مقابل كل من الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى نجد أن الفيلسوف الحديث عِلمي في نظرته، فالقيم لا تشهد بالضرورة على صدق الوقائع الممكنة، ولم يعد اللاهوت يضع حدوداً لتفكير الفيلسوف، ولا يملي النتائج التي ينبغي عليه أن يصل إليها"[4] وفي هذا المقال سأتحدث عن أحد المشاريع العِلموية في عصرنا، وهو العِلموية في علم الأعصاب.
أحاول خلال ذلك عرض كتابي (الأخلاق العصبية : نقد اختزال علم الأعصاب المعرفي للأخلاق)، والذي صدر عن مركز براهين مؤخراً هذا العام. لا يمكن فهم علم الأعصاب المعرفي المعاصر من حيث الافتراضات الأساسية ونطاق العمل إلا بفهم فلسفته، ولذلك خصصت فصلين من كتابي للحديث عن فلسفة العقل المعاصرة، وعن الخلفية التاريخية لتلك الفلسفة. فقد رأى ديكارت (وهو الشخصية التاريخية المفتاحية في هذا الباب) أن المادة الجامدة محكومة بقوانين قابلة للتعلم، ومن المعلوم أن الكائن الحي لا يمكن التنبؤ به بصورة كاملة (ولا يُرضي ذلك العِلموية بحال) لأسباب كثيرة منها : تفاعله المستمر مع بيئته. والاختلافات الفردية. حيث عالج ديكارت هذه المشكلة بأن أدرج الكائن الحي مع الجماد عملياً، فقد اعتبر الكائن الحي (سوى الإنسان) مجرد آلة. هذا الحل - إن كان حلاً - هو "تجاهل للمشكلة من أصلها" كما يقول إرنست ماير[5]
ورغم أنه خلاف ما نعرفه بالتعامل المباشر مع الحيوان وما نعرفه علمياً الآن عن ذكاء وثقافة الحيوان (وحيويته بالطبع!) إلا أنه قد أثر تأثيراً سلبياً كبيراً، إذ أنه مَهَّد للبرمجة الداروينية والمُطابقة بين الغريزة (أو الهداية) والبرمجة، لكن هذه النقطة خارج محل بحثنا. المهم أن ديكارت قدم إمكاناً كبيراً لفلسفة العقل المعاصرة في اختزال الكائن الحي في بنيته الجسدية المادية. وعند تطبيق هذا على الإنسان نجد أن علم الأعصاب المعاصر يُطابق بين الغريزة ومناطق معينة في الدماغ، أو يختزل الغريزة في مناطق دماغية. أضف إلى ذلك أن استثناء ديكارت للإنسان من هذه الآلية وجعله جوهراً حراً غير مادي لم يقنع أكثر قراءه، لأنه لم يفلح في حل مشكلة اتصال هذا الجوهر اللا مادي بالجسد المادي. وتطبيقاً على الغريزة العقلية عند الإنسان فقد أعلن علماء الأعصاب أن العقل هو الدماغ، وأن الإنسان أسير لبنى عصبية ودماغية، ولا شك أن لهذا آثاراً بالغة على الأخلاق (لأنها في هذه الحالة ليست سوى إطاعة أوامر عصبية) !
وبذلك صار مفهوم الإنسانية بكامله في ظل العِلموية وهم. ذلك الأساس الفلسفي الذي أسسه ديكارت (كون الكائن الحي آلة) ثم مدَّه عِلمُ الأعصاب على استقامته ليكون (الإنسان آلة) : هو سبب ما نسمعه من دعاوي تنكر حرية الإرادة. وقد انتقدت المذاهب المتطورة في هذا التصور الاختزالي للانسان، وهي المذهب الوظيفي، والمادية الإقصائية، والفيزياء الاختزالية. فانتقدت الحجج المركزية لتلك المذاهب تفصيلاً في الفصل الثاني والثالث، وكذلك في فصل نقد مارك جونسون وجورج لايكوف. ورغم هذه المذاهب الاختزالية إجمالاً، إلا أن هناك اتجاه معاصر يعارض الاتجاه السائد في علم الأعصاب المعرفي، ويمثله بيتر هاكر الفيلسوف البريطاني المتخصص في فلسفة فتجنشتاين، فقد قدم نقداً فريداً لمفهوم العلوم العصبية المعرفية تحت عنوان : (المغالطة التجزيئية في علم الأعصاب)[7] The Mereological Fallacy in Neuroscience، ويمكن تلخيص ما قاله على النحو التالي : يفترض علم الأعصاب المعرفي أن للمخ قدرات إدراكية ومعرفية وأخلاقية معينة، فالمخ هو مَن يفكر ويعتقد ويفسر ويختبر الأشياء ويعقلها، وهذا ظاهر بأدنى تأمل في أعمال أنتونيو دا ماسيو وسام هاريس مثلاً، يقول دا ماسيو : "أدمغتنا تستطيع غالباً أن تقرر جيداً في ثواني أو دقائق، اعتماداً على الإطار الزمني الذي نحدده مناسباً لتحقيق الهدف الذي نريده، وإذا كان باستطاعتها ذلك فلا بد أنها تقوم بمهمة عظيمة، وليس مجرد التفكير المحض"[8]
وتطبيقاً لهذا الاختزال يرى هاريس أن : "الإرادة الحرة وهم، ببساطة نحن لا نصنع إرادتنا، فالأفكار والمقاصد تنبع من أسباب جذرية لا نعيها ولا نمتلك السيطرة الواعية عليها، نحن لا نمتلك الحرية كما نظن.. حتى الإرادة الحرة لا تنسجم مع الحقائق الذاتية عنا، ويتضح لنا الاستبطان كمُعارض لهذه الفكرة وكذلك قوانين الفيزياء. إن أفعال الإرادة تنبثق فقط بشكل تلقائي (كونها مُسببة أو غير مُسببة أو يُحتمل انحرافها لا يؤثر)، ولا يمكن تتبع أصلها في عقولنا الواعية. دقيقة أو اثنتان من المراقبة الذاتية وستلاحظ أنك لا تملك قرار الفكرة التالية أكثر من فكرتي التالية التي سأكتبها"[9] لكن لغتنا العادية التي هي المُبرر الأعلى لا تسمح بهذا الاستخدام (بناء على تقرير منطقي أصله في كتابي "الإجماع الإنساني" أن اتفاق المجتمعات هو مُحدد المعنى، وعرضت هذا التقرير بتفصيل مختلف وضروري في كتابنا محل الحديث)، فكما وصف فتجنشتاين : “وحده الإنسان وما يسلك مثل سلوكه هو الذي يمكن القول بأن لديه إحساسات، وأنه يرى، أو أنه أعمى، أو أنه يسمع أو أنه أصم، أو أنه واعٍ أو أنه غير واعٍ".
فليست العين هي التي تبصر، بل وعي الشخص نفسه، ويقول نورمان مالكولم : ”هل يمكن أن تكون للدماغ أفكار أو أوهام أو آلام ؟ إن غياب معنى هذا الافتراض يبدو واضحاً إلى درجة أنني أجد من الصعب أخذه على محمل الجد، لم تستطع أي تجربة أن تثبت هذه النتيجة من أجل الدماغ، لماذا لا ؟ السبب الأساسي هو أن الدماغ لا يشبه بشكل كاف الكائن البشري"[10] إن المحمولات النفسية لا يمكن نسبتها إلا للإنسان ومَن يسلك مثل الإنسان. فالقول بأن شيئاً ما كالدماغ يشعر أو يفكر من ذاته هو استخدام آخر يمكن تسميته بالثانوي أو المجازي. لكن أن نستبدل الإنسان بشيء من جسده للحديث عنه فهذا خطأ مقولي واضح، فالدماغ أو المخ كعضو : ليس هو مَن يمر بالتجارب مختلفة الجوانب، بل وعي الإنسان. ومن هنا يعلم القارئ أن فكرة أن الدماغ يوجه الإنسان أو يقوده لفعل ما (الجبر) لا معنى لها، وأن التجارب التي قامت على هذه الفكرة وقعت في التباس مفاهيمي. وفي النهاية : قدمت تصوراً أخلاقياً سميته : (البناء الوصفي للقواعد الأخلاقية). وبطبيعة الحال يعارض هذا التصور الفطري ثالوث : الفردية والعلمانية والعِلموية، لأنه يقوم على وصف الأخلاق داخل النشاط الإنساني الاجتماعي (مقابل الفردية) ولا يفترض عقلاً أخلاقياً مجرداً مستقلاً عن الشهوات والأهواء (كما افترض ديكارت)، أو عقلاً مختزلاً في دماغ، بل يفترض شخصاً كاملاً داخل مجتمع ذي ثقافة وقيم (مقابل العِلموية). ويقوم هذا التصور أيضاً على أن الدين هو مَن علَّم ورسَّخ أصول القيم والثقافة من خلال الأنبياء (مقابل العلمانية). حيث لا يمكن تسويغ الأخلاق في العلمانية.
المراجع :
[1] Scientific and Philosophical Perspectives in Neuroethics. Edited by James J. Giordano and Bert Gordijn. Cambridge and New York: Cambridge University Press. P. 37.
[2] أقصد بالثقافة هنا المفاهيم الأصلية في حياة الناس، مثل حرية الإرادة، والزواج بالمفهوم المعتاد للأسرة، وغير ذلك.
[3] المرجع السابق نفس الصفحة.
[4] ألن و. وود، 2005، كانط، المركز القومي للترجمة، ترجمة: بدوي عبد الفتاح، ص47.
[5] What Makes Biology Unique?: Considerations for the Autonomy of a Scientific Discipline. By Ernst Mayr. Cambridge and New York: Cambridge. University Press. P. 22
[6] عَرضتُ بعض الأبحاث الحديثة التي تثبت وجود ثقافة اجتماعية في عالم الحيوان، ودللت على عدم إمكان تطورها من العدم في بحثي : (نقد الأخلاق التطورية، ريتشارد دوكينز نموذجاً).
[7] Bennett, M. R. & Hacker, P. M. S. (2003) Philosophical Foundations of Neuroscience (Hoboken, NJ, Blackwell) Ch. 3
[8] Antonio Damasio (1995), Descartes' Error: Emotions, Reason, and the Human Brain (New York: HarperCollins) P.172
[9] Sam Harris, Free Will (New York: Free Press, 2012) 5–6
[10] سرجيو مورافيا، 1995، لغز العقل: مشكلة العقل والجسد في الفكر المعاصر، منشورات وزارة الثقافة دمشق، ترجمة عدنان حسن، ص321.