ذكاء الملحد- بقلم لمياء الغيث

ذكاء الملحد

لمياء يوسف الغيث، أخصائية تغذية، مشرفة في مركز ركن الحوار

في كل مرة يحاول الملحد إغاظتي يفتح لي آفاقاً من حيث لا يحتسب، يدعني أتفكّر في أشياء لم أتطرق يوماً للتفكير فيها ولا البحث عنها، بسببهم أستشعر كل مرة قول الله : { أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ }. هناك دراسة جديدة يزعم فيها الملحدون أنهم الأكثر ذكاءً، لاسيما التركيز على ذلك في المقالات العربية التي تكثر وعنوانها (الملحدون هم الأذكياء) لكن : لماذا الملحدون الأذكياء يتركون الدراسات الأخرى التي تحمل عكس ذلك ويعيشون في وهمهم رغم ادعائهم حب المعرفة والبحث المجرد !

وبعيداً عن تلك الدراسات التي تُـثبت عكس ذلك والفرق ليس بالهين، أتذكر ما قاله قدوتهم داروين معبراً عن حيرته وانزعاجه من هذه القضية حيث قال : “ينتابني دوماً شكٌ فظيعٌ حول ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان والذي بدوره تطور من عقول كائنات أدنى تتمتع بأي قيمة، أو تستحق أدنى ثقة” ![1]. ولا يوجد مثالٌ أفضل من فيلسوف الوعي الأمريكي الملحد توماس نايغل الذي قالها صراحة : “أريد للإلحاد أن يكون صحيحاً، ويزعجني أنه يوجد الكثير من الناس العباقرة المثقفين من المؤمنين”[2]. فقط يريده أن يكون صحيحاً ! ثم يرحب البيولوجيي الملحد ريتشارد دوكينز بالخلاصات الفيزيائية للملحد ستيفن هوكينغ قائلاً : “رغم أنني لا أعرف شيئاً عن تفاصيل علم الفيزياء، إلا أنني أعتقد بالأمر نفسه". 

نعم يعتقد في رأي لا يعرف عنه شيئاً ويعتبره إيماناً صحيحاً، أما الإيمان الفطري الحقيقي بخالق النظام وموجد قوانين الكون فهو عنده الغباء بعينه[3]. لا أفهم حتى هذه اللحظة ما هو الإيمان حقاً باللاشيء ! ولذا يقول الناقد البريطاني الكبير تيري إيغلتون : “ريتشارد دوكينز أحد علماء اللاهوت الإلحادي، يسهب في الحديث عن علم البيولوجيا ومبلغه فيه لا يتجاوز ما ورد في كتاب (الطيور البريطانية)” ![4].

وحين أعود إلى ستيفن هوكينج - الكائن الأذكى المتطور من كائنات أدنى ! - نجده يشكر في كتابه (التصميم العظيم) كل مَن ساهم في كتابه، المصممين والمحررين والمدققين وحتى المحفزين ولسان حاله يقول : “إن للكون تصميماً وكذلك الكتاب، لكن الكتاب - وبخلاف الكون - لا يظهر تلقائياً من العدم، فالكتاب يحتاج إلى خالق" ! وهكذا نجد كتابه الصغير الذي لا يتجاوز 250 صفحة يحتاج لفريق عمل ؛ في حين ينشأ عنده الكون ببساطة من العدم، ينشأ النظام والدقة والقوانين بتفاصيلها وكل شيء : من اللاشيء ! ويجب الإيمان بهذا اللاشيء ! الإيمان بأن المادة الجامدة الميتة قد أنتجت كائناً ذا حياة وإحساس، وأن يكون عامل الزمن قد أبدع من غير قصد كائنات عاقلة، وأن المادة التي لا تفكر قد أنشأت كائناً يفكر !

يقول هوكينج : ”الناس إذ تحيا في هذا الكون الهائل الذي يتبدّل حاله بين كون رحيم وكون قاسٍ ويحدِّقون لأعلى للسماوات الشاسعة، فإنهم دوماً يسألون العديد من الأسئلة : كيف يمكننا فهم العالم الذي وجدنا أنفسنا فيه”[5]. ويقول بعدها بعدة صفحات : “ومع أننا تافهون وضئيلون بمقياس الكون، إلا أنَّ هذا يجعلنا بمعنى ما، سادةُ عملية الخلق”[6]. فما نحن والأرض التي تضم البشر جميعاً إلا ذرة مهملة في فضاء الكون الهائل، والبشرية كلها ما هي إلا نوع من أنواع الأحياء الكثيرة على وجه هذه الأرض بلا تمييز، وما الجيل الواحد من الأمة الواحدة إلا صفحة من كتاب ضخم لا يعلم عدد صفحاته أحدٌ منهم.

هذا الجيل عرف أشياء كثيرة لو أدرك أفراده كيف عرفوها وشكروا لكان خيراً لهم. عرفوا أن أرضهم التي كانوا يظنونها مركز الكون إن هي إلا ذرة صغيرة، وعرفوا أن الشمس كرة صغيرة، يوجد منها في الكون مئات الملايين، وعرفوا طبيعة أرضهم وطبيعة شمسهم وربما طبيعة كونهم إن صح ما عرفوه، عرفوا الكثير عن مادة هذا الكون الذي يعيشون فيه، عرفوا أن أساس بناء هذا الكون هو الذرة، وعرفوا عن الذرة الكثير والكثير، عرفوا الكثير عن كوكبهم الأرضي الصغير، كشفوا عن شيء من باطنه، عرفوا الكثير في جوف هذا الكوكب، عرفوا القوة التي تربط كوكبهم بالكون الكبير، ومنهم مَن اهتدى لمعرفة هذه القوة، ومنهم مَن وقف على ظاهر العلم لا يتعداه، العلم الذي يتجه وبشده لمعرفة مادة هذا الإنسان أكثر من اتجاهه نحو عقله وروحه.

فحين ننظر لـفولتير كمثال، أول الملحدين والأب الروحي للإلحاد الحديث كما يسميه ويل ديورانت صاحب (قصة الحضارة)، نجده يشرح فلسفته الإلحادية لزملائه، وفي نفس الوقت كان يشرح الأخلاق في إطار الدين لخدامه لخوفه عليهم من الإلحاد ! فيدفعهم إلى الإيمان بالأخلاق في إطار ديني، قائلاً كلمته الشهيرة : “لو لم يكن هناك إله لخانتني زوجتي وسرقني خادمي" ! بل وقام في أواخر حياته ببناء كنيسة بالقرب من قصره نقش على مدخلها : ”يا رب اذكر عبدك فولتير” ! وادّعى أنها الكنيسة الوحيدة المخصصة لله وحده على هذه الأرض، أما الكنائس الأخرى فهي مخصصة للقديسين، وكان يرسل خدمه إلى الكنيسة بانتظام ويدفع أجور تعليم أبنائهم قواعد الدين.[7]

أتذكر ما قاله روبيرت جاسترو : "يبدو في هذه اللحظة أن العلم لن يستطيع سحب البساط عن غموض الخلق، وأنّ القصة بالنسبة للعالِم الذي عاش بإيمانه بقوة السبب ستنتهي كحلم سيء له، لقد تسلق جبل الإنكار، وهو على وشك بلوغ الذروة العليا، وقد جذب نفسه نحو الصخرة الأخيرة ولكنه تلقّى تحية من علماء الدين الذين يجلسون هناك منذ قرون"[8] وحين أعود للدراسة التي يحتفون بها ؛ فهم يركزون على زعمهم قدرة الملحدين على فهم ما حولهم بالتأمل والتفكير والتحليل أكثر من المتدينين، بل إن المتدينين لا يهتمون بدراسة الطبيعة من حولهم كما زعم هوكينج : “إننا نعيش لبرهة وجيزة من الزمن، وفي تلك البرهة الوجيزة نستعرض جزءاً صغيراً جداً من الكون، ولكن لحب الاستطلاع فينا فنحن نبحث عن إجابات لأسئلة عديدة".

في ذات الوقت الذي يتجاهل فيه الإلحاد الأسئلة الوجودية الكبرى يقول دوكينز : ”إن الغاية من وجودنا مجرد سؤال تافه بلا قيمة”. وتلك القيمة ستأتي فقط حينما يتم حل مشاكلهم ويجدون ثمّة جواب. وأنا هنا لا أُناقش الحقائق أو النظريات الفيزيائية، وإنما الطريقة التي استخدم بها الفيزيائيون الحقائق والنظريات في إثباتهم لما أثبتوه، أو إنكارهم لما أنكروه مما يتعلق بقضية وجود الخالق. وكثير من الفيزيائيين يناقشون هذا الأمر على أنهم لا يتكلمون بوصفهم فيزيائيين خُلّص؛ لأن ما يقولونه هو مزيج من حقائق الفيزياء ونظرياتها وما يتعلق بها من تأملاتهم واعتقاداتهم الخاصة حولها. فالفيزيائي عندما يقحم الإلحاد في العلم فهو لا يتحدث وقتها عن واقع مُشاهد ولا عن لازم عقلي، بل يُعبّر عن وهم توهمه، وإلا لو كان الأمر كما زعم لما بقي على ظهر الأرض مؤمن.

ثم هل يجب فعلاً على كل إنسان أن يخوض تجربة الشك ويدرس ما يحدث في الكون وآخر ما قاله التطور وأن يعتمد فعلاً على العلم التجريبي الذي يخذله في كل مرة ؟ هل يجب فعلاً أن يخوض صراعات الشك ؟ ماذا عن البسطاء ؟ مَن يبحثون عن لقمة عيشهم فقط ؟ أو حتى أولئك الأغنياء من هم مشغولون بجمع مالهم ألا يحق لهم أن يلجؤوا إلى إله يطمئنون إليه ويرشدهم إلى الصالح من حياتهم ؟ هل يجب على كل إنسان ألّا يؤمن بشيء ؟ ثم لما اللاشيء وكل ما فينا يخبرنا بشيء ؟ وهناك استفهام بحجم الكون ؛ هل الحجر والشجر وفهمهما أهم من فهم البشر من حولنا ؟ فهم طبائعهم واختلاف تفكيرهم؟ فهم الألم والظلم والجبروت وحب الذات والسيطرة ؟ فهم أن العالم لا تدور أحداثه كما تريد أنت ولن تتحقق رغباتك لمجرد أنها رغباتك ؟

ففي نفس الوقت الذي يخبرني فيه الملحد أنني لست محور الكون وما أنا إلا ذرة غبار كوني في كوكب صغير، وأنه من بعيد جداً ستبدو الأرض صغيرة جداً، ضئيلة جداً، تافهة جداً، من بعيد لن يظهر البشر أصلاً، كأنما لا وجود لهم، ولن يبدو على الأرض ما يستحق العناء : يخبرني في الثانية التي بعدها مباشرة أنه محورها !، وذلك حينما يرى الشيء شراً في عقله الطفولي ويجب أن يتغير لمجرد أنه مقتنعٌ بذلك. فالقول إنّ وجود الشرور في العالم دليل على عدم وجود إله، هو حل سهلٌ للإشكال، بل شديد السهولة ؛ إذ لا يستغرق من العقل جهداً. فهنا يرى (ج. ماكي) : أنّ الإله الخيّر مُطلق القدرة، إن وُجد، فعليه ألّا يسمح للشرّ بالوجود، ولذلك فوجود الشرّ يلزم منه منطقياً عنده أن هذا الإله غير موجود.[9] ثم إن كنّا لا نعرف اليقين إلّا بالشك، فكيف نعرف الخير إن لم يوجد الشر ؟ كيف يمكننا تحديد إن كان ما نعتقده شراً فعلاً ؟ أو هل يجب اخضاعه للعلم التجريبي لمعرفة ما إذا كان شراً محضاً أم لا ؟ ولذا كتب فريمان دايسون : "لماذا نحن هنا ؟ هل للكون هدف ؟ من أين أتت معرفتنا بالخير والشر ؟

إن هذه الألغاز والمئات مثلها بعيدة عن متناول العلم، وتقع على الجانب الآخر من الحدود ضمن سلطان الدين".[10] وأعجبني جداً ما قاله الأستاذ عرابي في موقع السبيل : "أضف إلى ذلك سيدي الكريم أن الإلحاد لا يقدم تصوُّراً يبين المقصود من "الشر" بوضوح، فهل "الشر" مفهوم مطلق أم نسبي ؟ وهل قيمته ذاتية أم نسبية ؟ وهل وجود الشر طاغٍ على وجود الخير ؟ ثم هل يمكن للشر أن ينفي وجود الإله بحد ذاته ؟ إن كلمتي "الشر والخير" في ذاتهما تدلان على عَرَضٍ خارجيٍّ يدل على نسبة بين شيئين، أي أن الحكم مُنتزَع من حيث التحقق أولاً وارتباط المحيط به ثانياً، فثورة بركان ما شَرٌّ على أهل المنطقة الواقعة بالقرب منه إلا أن فائدته للتربة مثلاً خير للأجيال اللاحقة، وكذلك "الموت".. فإن فناء مليارات الجراثيم قد يكون شراً بالنسبة لها إلا أن ذلك خير بالنسبة للكائنات التي تتأذى منها، وكذلك وجود السم في الأفعى، فإنه خير بالنسبة لها إلا أنه شر بالنسبة لمن يُلدَغ به، ومن ثم فإن وجود الشيء ليس ذا كفاية للحكم على قيمته من حيث الخير والشر.

وإذا تدبرنا ذلك فإن وجود هذه الثنائية في الكون بحد ذاتها محض خير، فانتفاء الخير يجعل من الوجود شراً محضاً، وانتفاء الشر يجعل من الدنيا دار سعادة محضة، وبذلك لا يمكن التوصل إلى معاني التفاضل والخيريّة بين الناس أو إدراك المعاني الكبرى كالباطل والحق، وبذلك يكون وجود الشر ضرورياً لتدعيم معنى الخير، ووجود الباطل ضرورياً لتدعيم معنى الحق. ثم إن الحياة كما هي في عينيّ الملحد، بحلوها ومرّها، أعظم إيلاماً من الشرور في عينيّ المؤمن. عبّر الفيلسوف (أوغسط أُوت) (Auguste Ott) في كتابه عن مشكلة الألم عن موقع الألم من الحياة العدميّة التي صنعها عقل الملحد، فقال : "إذا كان الإله مجرّد اسمٍ عابثٍ، إذا كان كلّ شيء ينتهي بالنسبة لنا بالموت، إذا كان كلّ أملٍ في وجود أفضل هو وهم، فلنا أن نتساءل إن كانت الحياة تستحق أن نعيشها ؟ نحن نتحدّث عن التطوّر، ونرغب في ازدهار مستمر لشؤون الإنسان، وتكيفاً كاملاً بين المَلكات الإنسانيّة وطبيعة العالم الخارجي، ولكن هل لهذه الآمال البعيدة، وربّما المضلّة، أن تعوّض الآلام الحاضرة ؟ وحتّى لو تحقّقت، فهل ثمراتها الموعودة تدوم أكثر من لحظة"[11]

وأخيراً .. إن كان الكون يحكمه القانون فلعجلة الكون قانونها أيضاً، فهي تدور بطريقتها وبسرعتها ولوجهتها وتدير الكون كله معها، ثم ماذا إن أرادوا أن تسرع أو أن تبطئ من بين هذا الموكب الضخم الهائل حين تنفك العجلة وتنحرف عن خط السير من قلق واستعجال وأنانية وطمع ؟ حين تنفك سنظل نشرد هنا وهناك والموكب ماضٍ ونحتك بهذا الترس وذاك ونتألم ونصطدم هنا وهناك ونتحطم، والعجلة ماضية في سرعتها وطريقتها إلى وجهتها وتذهب تلك القوى سدى، أما حين تؤمن قلوبنا حقاً وتستسلم لله حقاً وتتصل بروح الوجود حقاً، فإننا نعرف دورنا على حقيقته، وننسق خطانا وخطوات القدر ونتحرك في اللحظة المناسبة بالسرعة المناسبة، وفي المدى المناسب. نتحرك بقوة الوجود كله مستمدة من خالق الوجود ونصنع أعمالًا عظيمة فعلًا، دون أن يدركنا الغرور لأننا نعرف مصدر القوة التي صنعنا بها هذه الأعمال العظيمة، ونوقن أنها ليست قوتنا الذاتية إنما هي كانت هكذا لأنها متصلة بالقوة العظمى. ويا للسلام الذي يفيض في أرواحنا ونحن نعيش في كون صديق، كله مستسلم لربه، ونحن معه مستسلمون.

المراجع :

[1] Darwin Correspondence Project https://www.darwinproject.ac

[2] Nagel, Thomas, The Last Word, pp. 130–131

[3] الأطفال يولدون مؤمنين بالله: http://www.telegraph.co.uk/news/religion/3512686/Children-are-born-believers-in-God-academic-claims.html

[4] Terry Eagleton, lunging, flailing, and Mispunching, (2006) Vol.28, No.20,

[5] الصفحة (13) التصميم العظيم

[6] المرجع السابق صفحة (19)

[7] ويل ديورانت قصة الحضارة المجلد 38 الصفحة (214)

[8] جاسترو، روبرت. (1992). الله والفلكيين god and the Astronomers . مكتبة القراء، الصفحة (107)

[9] J. Mackie, “Evil and Omnipotence,” p. 201

[10] Freeman Dyson. فريمان دايسون ( 2000) التقدم في الدين حديث فريمان دايسون progress in religion : A talk by Freeman Dyson

[11] A. Ott. Le problème du mal (Paris: Fischbacher, 1888), pp.5-6