العطور : القصائد الكيميائية
م. عبدالله بن خالد الدريس هندسـة ميكانيكيـة - جامعـة الملك فهد للبترول والمعادن
إن تجاهلت فضولك ولم تأبه للجمال :
فلن تعرف من الحياة إلا القليل.. أما إذا وجهت فضولك وتتبعت الجمال : فستدرك الكثير عن هذه الحياة لا محالة.
سيداعب الجمال روحك إن سمحت له بذلك، فالمنظر البديع للنهر وهو يشق تلك الغابة الجبلية سيصير غذاء مكثفاً للعينين، وصوت خرير الماء وهو ينساب من قمة الجبل في انسجام تام : لن تخطئه أذنك مع خلفية حفيف الأشجار على سفحه.
ولن تنسى كذلك تلك الورود ذات الألوان البهية التي تهمس بحروف لا مرئية ترجمها الأنف إلى جمل عطرية تحرك مشاعر البهجة في الفؤاد.
الرائحة هي جزيئات متطايرة باهتزازات مميزة وغير ملحوظة لا تأبه لها العين، ولا تعيها الأذن، ويحار فيها الأنف المرهف الذي ينفجر بالأسئلة عن ما هيتها ؟ فسرعان ما يصاب بالتعب لا سيما إن ظلت تلك الأسئلة معلقة في فضاء الغموض بلا إجابات ولا دلائل بصرية أو عبارات لفظية.
ظلت الرائحة لكثير من الوقت محل تساؤلات ومحاولات لفك شفرتها، فمنذ خمسينيات القرن الماضي وصناع الترفيه ومصمموا التجـارب الحســية يخوضـون التجارب العملية لدمج الروائح بالصور والأصوات بل وحتى الرسائل المكتوبة، سواء كان ذلك في قاعات السينما أو إرسال الروائح عن طريق البريد الإلكتروني ! ظلت كلها محاولات خجولة مقارنة بالتطور التقني الضخم في مجال الصوتيات والمرئيات.
وعلى الجانب الآخر لم تحظ الروائح والعطور باهتمـام الدراسـات المعنيـة بالتفضيل الجمالي بالقدر نفسه الذي لاقته فنون الرسم والنحت والعزف الموسيقي.
قد يعود سبب ذلك إلى أن الروائح من أشد المحسوسات بعداً عن المعيارية، ولصعوبة حصرها في وحدات قياس كمية أو إجراء تحليلات تنبؤية حولها، ناهيك عن ارتباط الروائح بمخزون العواطف في داخل كل شخص منا، والذي يخضع إلى تعقيدات نفسية تراكمية لذكريات الشخص وما يربطه بالروائح من مشاعر وكلمات.
من هذا المنطلق جاءت فكرة هذا الموضوع لتسليط الضوء على الروائح كجزء من الجمال، وتجربتي مع العطور وأثرها على كينونة الإنسان.
مفتاح البحث عن الزمن الضائع :
هل سمعت يوماً عن الذاكرة البروستية ؟!، والمقصود بها ذاكرة الروائي الفرنسي الشهير مارسيل بروست، الذي كان مصدر إلهامه في رحلة دامت 13 عاماً هي رائحة ونكهة كعكة المادلين المغموسة في كوب الشاي ! تلك الرائحة التي قادت بروست لسبر أغوار ذاكرته من الطفولة إلى الرشد ليكتب أحد أهم الأعمال الأدبية في القرن العشرين.الرائحة من أقوى المحسوسات قابلية لصنع كثافة حسية لاستعادة ذكريات قديمة يزداد عمقهـا بالتكـرار وارتباطهـا بأشخاص قريبين لك.
لنأخذ على سبيل المثال الروائح العطرية التي مرت بك في طفولتك. هل تتذكر عطر والدك أو والدتك ؟ ما المشاعر التي تستحضرها عندما يمر بك عبير عطرهم ؟ مشاعر اطمئنان وبهجة وأنت بصحبتهم ؟! أم خوف ووحدة ورائحة البيت تعج بعطورهم لخروجهم في إحدى المناسبات؟ أياً كانت إجابتك فمن المؤكد أنـك اسـتحضرت انطباعـات ومشاعر تعتمد على جودة الروابط المخزنة لديك عن ذلك العبير العطري الذي تكرر معك كثيراً من شخصين عزيزين على قلبك.
استناداً إلى هذه الحقيقة اعتدت منذ سن الثامنة عشر على (تحنيط) مشاعري بشكل شبه سنوي، فما أن تقارب زجاجة عطري من النفاذ احتفظ بآخر 5 ملليلتر من العطر، إلى أن تكونت لدي الآن مجموعة متواضعة من بقايا العطور، والتي أحب أن أسميها (قاموس المشاعر)... فبين الفينة والأخرى أعود لزيارة أحد العطور باستنشاقه، فكل عطر منها مرتبط بمرحلة سنية وكثافة حسية مختلفة، وكم من الجميل إدراك مدى تطور رصيدك الخبراتي ونضجك النفسي حين تقف لوهلة وتقلب صفحات (قاموس مشاعرك) الخاص لتقيم ماضيك.
وسيلة لتحسين المزاج ووضوح المشاعر :
الأروما ثيرابي :أو العلاج العطري Aromatherapy وهو أحد الطرق الشعبية لتحسين المزاج بشكل تلقائي بعد استنشاق مستخلصات زيتية من بعض النباتات والأخشاب المتعارف عليها مثل : نبتة اللافندر، وإكليل الجبل، وخشب الصندل، والفانيلا، وورق الليمون، وأوراق الشاي، وزهر اليلانج – يلانج.
تستند فكرة الأروما ثيرابي على التجارب واستطلاعات الرأي من ممارسيها على مر سنوات عديدة تم تكوين خبرة شعبية من خلالها ومراجع مكتوبة عن بعض المستخلصات الزيتية التي يتفق الغالبية على تأثيرها - وليس الكل - في إفراز هرمونات داخل الدماغ تساعد على الاسترخاء وتخفيف الصداع وتحسين الذاكرة وتزويد الجسم بجرعات من النشاط.
مثال ذلك رائحة اللافندر تشتهر بتهدئة الأعصاب وتمهيد الجسم لنوم عميق. أما رائحة إكليل الجبل فتشتهر بتنشيط وظائف الدماغ وتحسين الذاكرة واستخدامها كمضاد للاكتئاب.
وأخيراً وليس آخراً رائحة زيت ورق الليمون حيث تشتهر بتخفيف أعراض الصداع. وتختلف طرق استخدام الزيوت في الأروما ثيرابي من استنشاق الروائح الفواحة أو مزج المستخلصات بماء الاستحمام أو خلال جلسات تدليك الجسم، وعلى أية حال يجب تنويه القارئ العزيز للبحث بتفصيل أعمق في هذا الموضع وتأكده من مناسبة المستخلصات الزيتية وتركيزها له لتفادي أي حساسية أو طفح جلدي لا سمح الله جراء الاستخدام السريع لهذه الوسيلة.
لعبة قاتل الإغواء :
لست كازانوفا ولا بروفيسور الإغواء لكن أؤكد لك أن "ماكينة" الإغواء تعمل تلقائياً بوقود أسئلة الفضول، وتزداد كفاءة تلك الماكينة حين تنهمر الأسئلة بغزارة دون أن يقطع سريانها إجابات مقولبة ومركبة.علاقتي بعالم الروائح والعطور تحديداً بدأت منذ مراحل مبكرة في طفولتي، وأخذت منحى جدي بعد اطلاعي على رواية "عطر : قصة قاتل" للكاتب الألماني باتريك زوسكيند. حيث انتابتني الدهشة ! كيف بشخص مرهف الحس يقتل عشرات النساء ليصنع زجاجة عطر صغيرة ؟!وبعد تحليل لشخصية بطل الرواية “جان باتيست غرنوي” تبين لي أنه أسير شبح الإغواء طوال سيناريو الرواية، فقد كان يعتمد على أنفه وأحاسيسه قبل عينيه في السير بين الطرقات واصطياد الروائح، والأهم من ذلك هو مشكلته القديمة مع الكلمات وعدم قدرته على توظيفها في الوصف والتعبير على عكس الراوي الحصيف المسهب في الشرح والتفاصيل.
يمكن أن يقال :
إن عبير العطر الزكي في الهواء يوقع ضحاياه تحت سلطان الإغواء حتى يتبين ما هية الرائحة وما مصدرها فيخف أثر سحرها أو قد يتلاشى كلياً.
وبالاستناد على هذه القاعدة في رأيي المتواضع :
فإن الوسيلة الأنجع لقتل الإغواء هو وضوح الأحاسيس وسهولة شرحها ووصفها.ومنذ اكتشافي لهذه القاعدة، قررت تطبيقها على شكل لعبة - أو هواية إن صح التعبير - اسمها قاتل الإغواء.
فأخذت بكتابة رأيي الشخصي عن كل عطر أشم رائحته، ثم بدراسة مكونات ذلك العطر وفهم رائحة كل مكون فيه على حده مع كتابتي شخصياً وصفاً له : تولد لدي على مر السنين ومئات الزجاجات العطرية وصفحات الدفاتر المتناثرة شغف عارم بالكتابة الوصفية، وبهجة متزايدة بانتقاء المصطلحات الشارحة والواصفة للمحسوسات. ناهيك عن انفتاح شهيتي لتذوق لغات أخرى تحليلية غنية بالمصطلحات الحسية والوصفية كالفرنسية والألمانية.وإن سبق وتساءلت عزيزي القارئ لماذا ترتبط العطور دوماً بفرنسا ؟ فتذكر أن أدق لغة وصفت الروائح والمحسوسات في العصر الحديث هي اللغة الفرنسية، وأثر ذلك بالطبع ينعكس على كم الكتابات والأكاديميات المختصة في العطور بفرنسا، ناهيك عن امتياز موقعها الجغرافي، حيث تقع فيها عاصمة المحاصيل العطرية في العالم مدينة "غراس".
مستقبل الروائح والعطور :
في زمن تسارع التقدم التقني أصبح الخيال قريب المنال، بالإضافة إلى أن الخبرات ووفرة الأفكار أصبحت على أطراف أصابعنا مع توغل الإنترنت في حياتنا بكل تفاصيله. فلا عجب إن استمر الحال على هذا النسق أن نشهد تطورات تطول مجال الروائح وصناعة العطور مثل :
1- الواقع الافتراضي VR :
إذ من المتوقع دخول الروائح كمعزز للكثافة الحسية في محتوى الواقع الافتراضي، وأولى القطاعات المستفيدة ستكون القطاعات العسكرية والطبية لتساعد في إعداد برامج محاكاة مكثفة للمتدربين للتكيف مع روائح البارود والحرائق والجثث.
2- صوت العملاء :
شهدت العشرون عاماً الماضية تقلبات في جودة صناعة العطور، مع زخم في كمياتها المطروحة في السوق. مما أدى إلى تهاون بعض الشركات في جودة مكونات عطورها لتقليل التكلفة ورفع هامش الربح في مطلع الألفية الثانية. وفي المقابل لم تشهد البشرية سهولة وسرعة في التعبير عن الرأي على جميع الأصعدة - بما فيها العطور - بالقدر الذي تراكم على شبكة الإنترنت في العشرة أعوام الماضية.
فلا عجب أن ترى مدى الأثر التدريجي اليوم على مُصنعي العطور من الارتقاء بجودة المنتج، والاهتمام بتصميم الأغلفة والزجاجات، ومدى سرعة تلقي الانطباعات الأولية في غضون ساعات من العملاء مباشرة بعد طرح عطر جديد. ومن وجهة نظري المتواضعة أرى أن شبكة الإنترنت ساهمت في تقريب التواصل بين المصنع وشريحة العملاء المستهدفة، وأرى أنها ستظهر المزيد من شركات العطور الجديدة التي تقدم عطوراً ذات جودة فاخرة وبأسعار تنافسية.
3- علم الجينات :
كما ذكر عالم الفيزياء الحيوية لوكا تورن في كتابه “سر الرائحة” أن أي رائحة نشمها مكونة من أحد هذه العناصر : كربون، هيدروجين، أوكسيجين، نيتروجين، كبريت.
والفارق بين روائح المواد هو كيفية ترابط هذه العناصر واهتزازها كجزيء.هذه العناصر الكميائية هي اللغة الأبجدية التي تكتب بها جميع الروائح البسيطة والمعقـدة كالعطـور، والتـي يسميها بـ (القصائد الكيميائية)، ومع علمنا بذلك تظل مهمة توقع نجاح عطر ما أو فشله مهمة صعبة جداً، قد يكون مفتاح حلها خاضعاً لمدى تطور الأبحاث في هندسة الجينات وقدرتها على التنبؤ بالروائح المحببة لأعراق البشر المختلفة. فإن تحققت هذه التوقعات فستحدث ثورة هي الأهم من وجهة نظري المتواضعة في عالم تسويق وإنتاج الروائح حول العالم.
عزيزي القارئ في نهاية هذا الموضوع أتمنى أنت تكون قد قضيت وقتا ماتعا في هذه لرحلة المختصرة في عالم الروائح والعطور، سائلًا المولى عز وجل أن يرزقنا حب الجمال، وحب كل عمل يقرب إلى حبه.