الفيزياء الحديثة وأدلة وجود الله

 

 

الفيزياء الحديثة وأدلة وجود الله  

عبدالحكيم محمد النقيدان طالب دراسات عليا في الفيزياء النظرية

تخيل أنك دخلت غرفتك المغلقة منذ يومين فإذا بك تفاجأ بأن هناك طبقٌ من الطعام موضوعاً على الطاولة، وعندما تفحصت هذا الطبق وجدت أنه ساخن مما يعني أن هناك شخصٌ ما دخل غرفتك حال غيابك ووضعه بما لا يزيد عن الساعة تقريباً، وعندما فتحت هذا الطبق وجدت فيه طعامك المفضل الذي تحب ! ستستنتج من هذا الحدث أمرين، الأول أن غرفتك المغلقة تم فتحها قبل ساعة، والثاني : أن من فتحها إنسان عاقل ذكي لديه معرفة عنك.

هذا المثال البسيط ربما يوضح ما نحن بصدد الحديث عنه في هذا المقال عندما أشارت الكشوف العلمية الحديثة إلى ظهور هذا الكون للوجود منذ قرابة 13,7 مليار سنة عبر تفجّر هائل (المليار = ألف مليون)، وأن هذا التفجّر تم بطريقة فائقة الدقة والضبط تضمن توفر الظروف الملائمة لوجودنا.

  كيف دعمت الفيزياءالحديثة أدلة وجود الله ؟من أشهر الأدلة العقلية على وجود الله :

1-  دليل الحدوث، أو ما يسمى في الثقافة الغربية بالحجة الكونية :  .

The Cosmological Argument  -2 دليل الإتقان  أو ما يسمونه بحجة التصميم :.The Design Argumentوهذان الدليلان رغم قدمهما وبساطة مقدماتهما إلا أنهما من أقوى الأدلة العقلية على وجود الله، ومنذ القرن الماضي جاءت الفيزياء الحديثة لتعزز معطيات هذين الدليلين تعزيزاً لم يسبق له مثيل، فالدليل الأول دعمه القانـون الثانـي للديناميـكا الحراريـة ونظريـة الانفجـار العظيم Big Bang Theory، والثاني دعمته فكرة الضبط الكوني الدقيق Fine-Tuning.

  حُجة  الحدوثهذه الحجة عمل على شهرتها حديثاً الفيلسوف الأمريكي ويليام لان كريغ بعدما أخذها من التراث الإسلامي وأسماها  (الحجة الكلامية الكونية) :Kalam cosmological argument وهي تتكون من مقدمتين ونتيجة : - المقدمة الأولى : كل حادث له بداية فلابد له من مُحدِث.- المقدمة الثانية : هذا الكون حادث وله بداية.- النتيجة : هذا الكون لابد له من مُحدِث أعظم منه وخارجه، وبتعميم هذه القاعدة ومع استحالة تسلسل الأسباب إلى مالانهاية : فلا بد من وجود مُحدث أزلي (أي موجود دوماً وأزلاً بلا بداية) ولذلك لا تنطبق عليه قاعدة كل حادث له بداية لا بد له من مُحدِث.

وبذلك نصل إلى الإيمان بالخالق الذي هو الله عز وجل.فما أضافته الفيزياء الحديثة في هذا العصر هو تقديمها أدلة تجريبية مادية تدعم المقدمة الثانية (وهي أن هذا الكون بدأ في لحظة معينة) وأنه ليس كوناً أزلياً ممتداً في الماضي كما كان التصور السائد سابقاً خصوصاً في الثقافة الأوروبية المتأثرة ببقايا الفلسفة اليونانية.

وقد بدأت فكرة وجود بداية للكون عندما صاغ علماء الفيزياء في القرن التاسع عشر قوانين الديناميكا الحرارية والتي تحدد سلوك وخواص انتقال الطاقة. حيث يقرر القانون الأول أن الحرارة تنتقل من الجسم الساخن إلى البارد - وليس العكس - حتى يصل الجسمان إلى حالة الاتزان الحراري، وهذا يعني أنه لو كان الكون أزلياً فإنه يجب أن يكون قد وصل إلى حالة الاتزان الحراري، لذلك لا بد أن الكون ليس أزلياً. أما القانون الثاني فينص على أن الاضطراب (الانتروبي) Entropyلنظام مغلق - مثل هذا الكون - يتزايد ولا يتناقص مع مرور الزمن (ويرمز لزيادة العشوائية والتفكك مثل نقطة حبر في الماء أو فقدان حرارة كوب ساخن إلى الهواء). وهي عملية طبيعية تتم بتلقائية دون التدخل من أحد أو بذل شغل لفعلها، فأنت عندما تتترك غرفتك لفترة طويلة، فإنها تبدأ تلقائياً بفقدان سماتها تدريجياً مع مرور الزمن، فطلاء الجدران مثلاً يبدأ في الشحوب والتساقط، أيضاً أعمدة السرير الحديدية تبدأ في الصدأ والتآكل، والخشب كذلك يصبح رقيقاً ويبدأ في التكسر، ولن تستعيد الغرفة شكلها السابق من نفسها أبداً، بل يجب أن تتدخل أنت وتقوم بترميمها (أي تبذل طاقة وشغل خارجي).

ونحن نلاحظ أن كوننا الآن يتجه إلى المزيد من الاضطراب والعشوائية (أي يتجه إلى زيادة الانتروبي) الأمر الذي يدل على وجود بداية له ذات انتروبي منخفض.أما الدليل الثاني على حدوث الكون فقد ظهر في بدايات القرن العشرين، حيث بدأ عندما صاغ أينشتاين نظريته في النسبية العامة، ووجد أن الكون يجب أن يكون في حالة تمدد مستمر وليس ساكناً، لذلك قام بتعديل حساباته وأضاف ثابتاً رقمياً لمعادلاته سماه الثابت الكوني من أجل أن تتسق معادلاته مع فكرة الكون المستقر الأزلي :Steady State Theory والتي كانت هي النظرية السائدة آنذاك - وهذا أحد أكبر أخطائه كما اعترف بنفسه بعد ذلك -.

ثم تلا ذلك اكتشاف ظاهرتين طبيعيتين أحدثتا ثورة على فكرة الكون المستقر وهما :

1- ظاهرة انزياح طيف الأجسام السماوية البعيدة نحو اللون الأحمر - على يد الفلكي إدوين هابل - وهو ما يدل على أن الأجرام السماوية في حركة تباعد مستمر. وأما الظاهرة الثانية فهي اكتشاف الأشعة الميكرو-ويفية التي تملأ الكون، والتي وجد العلماء أنها من بقايا الانفجار العظيم الذي وقع في بداية الكون.وقد أدى هذان الاكتشافان إلى استبعاد نظرية الكون المستقر والتي تتضمن أزلية الكون، واستبدالها بنظرية الانفجار العظيم. تقول نظرية الانفجار العظيم أن الكون (بما فيه من زمان ومكان) بدأ من نقطة واحدة تسمى متفردة  Singularity. حيث كان الكون كله (بما فيه أنا وأنت والأرض والنجوم) متركزاً ومضغوطاً في تلك النقطة الصغيرة بكثافة عالية جداً، والتي في لحظة ما منذ قرابة 13,7 مليار سنة انفجرت بدرجة حرارة عالية جداً - تقدر بـعشرة مليار درجة مئوية في الثانية الأولى - وتمددت لينشأ عنها كوننا الجميل.ورغم أن هذه النظرية كانت غير مُحبذة من قبل الفيزيائين في بادئ الأمر نظراً لحمولتها الفلسفية والميتافيزيقية (أي الخارجة عن العالم المحسوس)، إذ مع إقرارها بأن للكون بداية فإن هذا يؤدي إلى فتح صندوق من الأسئلة من قبيل : من الذي بدأه ؟ من أين جاءت مادته ؟ لماذا بدأ في تلك اللحظة بالذات لا قبلها ولا بعدها ؟ وغيرها من الأسئلة المزعجة للوسط العلمي الذي يحاول البعض فيه استبعاد أي مبحث ما وراء العالم المادي أو المحسوس. إلا أن نظرية الانفجار العظيم هي النظرية السائدة الآن عند الفيزيائين في هذا العصر نظراً لوجود أدلة كثيرة تدعمها. ويعبر الفيزيائي الملحد ستيفن هوكنج عن حالة الاستياء هذه بقوله : “كثير من الناس غير سعداء بفكرة وجود بداية للكون، فهي تعني وجود موجود فوق طبيعي خلق الكون. لقد فضلوا أن يؤمنوا أن هذا الكون والبشر أزليين”.

لذلك نجد أن بعضهم حاول الالتفاف على نموذج حدوث الكون بافتراضات متعددة - مثل وجود عدة انفجارات متعاقبة لا متناهية (وهو نموذج الكون المتذبذب) من أجل الحفاظ على أزلية الكون، لكن لا تزال هذه الفرضيات غير قابلة للاختبار والفحص، بل هي عاجزة عن إثبات أزلية الكون كما يقول عالم الفيزياء الكونية ألان غوث : “رغم كل الجهد الذي بذله علماء الفيزياء لبناء بديل، إلا أن كل النماذج لها بداية”.

[2]   حجة التصميم يسمى هذا الدليل في التراث الإسلامي بدليل العناية، وهو يقرر أن هذا الكون مُسخر ومُقدر من أجل الوجود الإنساني الواعي، أو كما يقول فريمان دايسون : “كلما فحصت الكون أكثر ودرست تفاصيل بنائه، وجدت دلائل متنامية على أن الكون بمعنى من المعاني يعلم أننا قادمون”.

[3] وهذا الدليل ينطلق من فكرة أن ذلك الوجود فيه من مظاهر الإتقان والتعقيد والدقة والجمال والضبط ما يدل على أنه مُقدر لغاية وهدف (وهو معنى كلمة التصميم المراد هنا)، حيث لا يمكن له أن ينشأ بالصدفة، فالصدفة لا يمكن لها أن تنتج تركيباً منظماً أو غائياً كهذا الذي نراه أمامنا، لذلك لابد أن صانعاً خلفه : فائق العلم والقدرة، وهنا نستحضر المثال اللطيف الذي قدمه وليام بيلي في كتابه صانع الساعات، حيث يقول : “لنفترض أنك تمشي في البرية ووجدت ساعة ملقاة على الأرض، فإن الساعة بتعقيدها ودقة صناعتها تجبرك على الاعتقاد أنها لها صانع صنعها لغرض وقصد”.

عندما حسب عالم الفيزياء الفلكية الشهير لي سموليان Lee Smolin احتمالية تكون النجوم في كوننا، وجدها 1 إلى 10 أس 229 (يعني 1 وأمامه 229 صفراً وهو رقم مهول للغاية يُعبر عن مدى دقة الكون) فقال معلقاً على ذلك :" في رأيي، احتمالية بهذه الدقة ليست شيئاً يمكننا تركه بغير تفسير، من المؤكد أنه لا فِعل للحظ هنا، نحن بحاجة إلى بعض التفسير العقلاني لكيفية تحول هذا الأمر غير المرجح إلى التحقق ".

لقد جاءت الفيزياء الحديثة لتُدعّم معطيات هذا الدليل دعماً لم يسبق له نظير، حيث أن دراسات نشأة الكون وما يحويه من مظاهر معقدة كالكائنات الحية أظهرت أن الشروط الأولية (أي القوانين والثوابت الفيزيائية) التي وجدت مع نشأة الكون تتطلب دقة فائقة جداً في وضعها وضبطها، وأن أي خلل ولو كان طفيفاً في تلك القوانين والثوابت فإنه سيؤدي إما إلى عدم نشوء الكون بالكلية، أو إلى نشوئه نشأة لا تسمح بظهور الحياة فيه. فمثلاً ؛ لو كانت سرعة الاتساع الكوني في الثانية الأولى بعد الانفجار أبطأ من قيمتها بمقدار جزء من مليار مليار جزء لانهار الكون على نفسه بسبب قوة الجاذبية ولم يظهر إلى الوجود، ولو كان أسرع قليلاً لتناثرت مادة الكون وتشتتت ! كذلك نجد أن عدد الإلكترونات والبروتونات في الدقائق الأولى من الانفجار العظيم مضبوط بدقة كبيرة جداً بحيث لو زاد أو نقص لما نشأت مادة الكون ! أيضاً درجة حرارة الكون مضبوطة بدقة كبيرة في اللحظات الأولى للانفجار حتى تضمن تشكيل أهم عنصرين في هذا الكون وهما : الهيليوم والهيدروجين. كذلك هناك ما يسمى بالثوابت الكونية (مثل ثابت الجاذبية، ثابت بلانك، سرعة الضوء، كتلة الإلكترون وغيرها) نجد أنها ذات قيم محددة جداً. فمثلاً يقول الفيزيائي النظري الاسترالي برندون كارتر : “أنه لو تغير ثابت الجاذبية بمقدار واحد على عشرة ديوديسلون (1 ديوديسلون = 1 أمامه 39 صفراً) لما كانت الشمس موجودة، ولما أصبحت الحياة على الأرض ممكنة”.

[4] وهناك أمثلة كثيرة جداً على هذا الضبط والدقة (للاستزادة : راجع كتاب "فقط ستة أرقام" لـ مارتن ريس - ترجمة ونشر مركز براهين، وكتاب "الصنع المتقن" لـ مصطفى نصر قديح - نشر مركز دلائل).

وسوف أضرب مثالاً لعله يقرب الصورة ؛ تخيل أنك تريد أن تركّب جهازاً يتكون من عشر قطع، وكل قطعة موجودة في حقيبة مقفلة برقم سري لا تعرفه مكون من ثلاث خانات، ويجب عليك أن تفتح الحقائب العشرة كلها من أول محاولة فقط وتخرج قطع الجهاز وتقوم بتركيبها مباشرة وإلا فشل الجهاز. كم ستكون احتمالية نجاحك في هذه المهمة ؟ لا شك أنها ضئيلة جداً، فنسبة نجاحك في الحقيقة تساوي واحد من ترليون ترليون محاولة (التريليون = مليون مليون) !

والآن... تخيل أن هذا الجهاز يتكون من 400 قطعة، وكل قطعة موجودة في حقيبة مقفلة برقم سري لا تعرفه مكون من 3 خانات، وعليك أن تتمكن من إيجاد الرقم السري لكل حقيبة وفتحها كلها من أول محاولة فقط لتركيب الجهاز ! كم هي شبه مستحيلة أن تتم هذه العملية في الحقيقة. فأنت سوف تحتاج إلى عدد من المحاولات يساوي الرقم : واحد وأمامه 120 صفراً ! وهذا الرقم أكبر من عدد كل جسيمات الكون كله بـ ترليون ترليون ترليون مرة ! هذا تقريب مبسط في الحقيقة لموضوع الثوابت الفيزيائية التي ظهرت قيمها مع بداية نشأة هذا الكون. طبعاً نحن نتكلم عن احتمال نشوء الثوابت الكونية فقط، ولم نتطرق لاحتمال نشأة الحياة في هذا الكون بالصدفة والتي تفوق هذا الرقم بما لا يمكن التعبير عنه بالكلمات.

وكما أن بعض الملحدين حاول الهرب من فكرة حدوث الكون كما ذكرنا آنفاً، فإنهم حاولوا أيضاً التقليل من شأن الثوابت الكونية وحاجتها لمصمم، وذلك بافتراض نسخ متعددة لانهائية من الأكوان التي تظهر بالصدفة، وكل كون لديه ثوابته و قوانينه الفيزيائية الخاصة به، وأن كوننا هذا أحدها، لذلك لا حاجة لمصمم، بل الأمر كله مجرد صدفة (سعيدة الحظ) كما يعبر أحدهم ! ولا شك أن هذا الافتراض غير علمي أولاً - نظراً لعدم قابليته للاختبار - وفي نفس الوقت هو لا ينفي الحاجة لإله أيضاً. ولا يخفي الملحدون في الحقيقة امتعاضهم من وجود مثل هذه الثوابت الدقيقة للكون، حيث يقول عالم الجينات الشهير فرانسيس كولينز أن كبير الملحدين ريتشارد دوكنز اعترف له في محادثة أنه “منزعج من فكرة الضبط الدقيق للكون” ويرى أنها   “صعبة التفسير” ! [5]كذلك يعلق الفيزيائي الملحد الشهير ستيفن وينبرغ عن هذا الأمر بقوله :"لا ينبغي لأحد أن يستهين بالورطة التي نحن فيها” ! [6]كلمة أخيرة ...يُخطئ من يظن أن العلوم الطبيعية مثل الفيزياء وغيرها يدخل في اختصاصها (تأكيد وجود الله) عن طريق (قياس الأشياء المادية) التي تتعامل معها، فكيف هذا والله نفسه خالق المادة ومتعالي عليها سبحانه ؟ كيف هذا وهو لا تدركه الأبصار ؟ كيف هذا ولا يستطيع أحد الإحاطة به عز وجل ؟ إذاً... نطاق عمل العلوم الطبيعية وبحثها هو في كيفية عمل السنن الكونية والقوانين التي أودعها الله في الكون لتسييره، مثل كيف ينزل المطر وكيف تتحرك الرياح والسحب، ولا يعني وصول الإنسان إلى فهم هذه السنن والقوانين أن ذلك (ينفي) وجود المُسنن والمُقنن لها، وإلا لصار مثل الذي فهم كيف تعمل قوانين المرور مثلاً فاستنتج من ذلك أنها ليس لها واضع أو مُشرع ! أو درس الهاتف المحمول فلما فهم كيفية عمله استنتج من ذلك أنه ليس له صانع !

 

‏   المراجع :

------------------------------------- 

  1. http://www.hawking.org.uk/the-beginning-of-time.html

  2. Alan Guth, Eternal Inflation p.13

  3. Freeman Dayson, Disturbing the Universe p.250

  4. Paul Davies, Superforce

  5. http://www.christianpost.com/news/francis-collins-atheist-richard-dawkins-admits-universes-fine-tuning-difficult-to-explain-51416

     

  6. https://www.youtube.com/watch?v=i4T2Ulv48nw