حواس الروح الخمسة
أ. ليلى بنت عبدالرحمن الموسى
إدارية تربوية وكاتبة ومؤلفة ورئيسة المجلس التنفيذي لجمعية البر بالأحساء
مهما قيل عن التعليم وتراجع دور المعلم وعن المناهج الدراسية، فالجذور حيّة، والذاكرة تزهر زهوراً بنكهة المدارس، فهناك دروس لا تزال عالقة في الذاكرة تأبى النسيان...
ففي مادة العلوم، درس أذهلنا، وامتزج بمعرفتنا، وصاغ نظرتنا إلى ذاتنا البريئة، درس أدهش عقولنا الصغيرة، وهز أحبالنا الصوتية الناعمة، وأزاح الستار عن أعيننا، أغرانا باختبار شم رائحة الماء، ولمس خشب المقعد الذي نجلس عليه، وذكرنا بطعم الحلوى...
إنه درس الحواس (الخمسة).
لا جديد في الدرس من حيث المعلومات، كنا نعرف أن لنا سمعاً، وبصراً، وحساً، وذوقاً، وشماً ! لكن الجديد كان في ربط هذه القدرات البشرية في منظومة واحدة ذات عدد، فتناغمت تلك الحواس وتراقصت لتشكل لنا مفهوماً ذا صورة، تشبه الصورة التي نحصل عليها بعد الانتهاء من صف القطع التركيبية.
تلا هذا الدرس الوفير، درس مثير آخر في مادة القواعد، وهو درس الأسماء (الخمسة)، فالغرابة والظرافة تحيط بتلك الأسماء الخفيفة اللطيفة : أبوك وأخوك وحموك وفوك وذوك.كم كانت مفاجِئة وجميلة ! ليت النحاة زادوا فيها قليلاً.وفي الرياضيات يتحول جدول ضرب الرقم (خمسة) إلى لعبة ذهنية ومتعة نفسية لا تسل عنها إذا ضُرب العدد خمسة في خمسة فظهر الناتج خمسة وعشرون. ولعل أول درس عملي في المرحلة الابتدائية، هو درس الصلاة ذات المواقيت (الخمسة)، كان تجربة إيمانية للأطفال على مقاعد الدراسة...عرفنا مواقيت الصلوات الخمس، قبل أن نعرف أن ما غنمنا من شيء فلله (خُمسه) وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، تأخرت المعرفة لتأخر التجربة، فالغنائم اختفت من حياتنا لتوقف الفتوحات الإسلامية منذ أكثر من 300 عام...
ثقافتنا الشعبية أيضاً تعلقت بهذا الرقم المتميز، فقد يطل علينا بعينه الزرقاء خشية الحسد و(خمسة) و(خميسة) في عين اللي ما يصلي على النبي...
ويبقى السؤال العالق :
أين العدد (خمسة) ؟ لماذا لم يكمل المسيرة ؟ لماذا غاب عنا في المراحل العليا من التعليم ! أين هذا العدد الرائع عن الجوانب النفسية والروحية والفلسفية ؟ما هي حواس الروح الخمسة ؟ أم أنها مما يجب غض النظر عنه لهيبة مقامها وشرف منزلتها ؟
-1 ربما تكون (الرؤى) التي تتحقق من أكثر حواس الروح جلاء، فمن منا لم يرى رؤيا ولو لمرة واحدة في حياته ! أو يسمع عنها من قريب مُقرب ويرى صدقها بعينيه، فالرؤى لها وهج لا ينكره إحساس، وقراءة متأنية في سورة يوسف عليه السلام، تعرف من خلالها كيف توقظ الرؤى الإحساس، لكن ثمة اختطاف حدث لهذه الحاسة الرفيعة من مفسري الأحلام في الفضائيات العربية ! وهناك حاسة تذهلك عندما تتفاجأ باتصال من شخص كنت تفكر فيه أو تنوي الاتصال به ، فكم من مرة قلتها صادقًا ( لقد كنت على بالي ) أو قلت : (لقد سبقتني ) أو قلت الجملة التعبيرية الشهيرة : ( القلوب عند بعضها) سمِّها كما شئت تخاطر أو تواصل
-2 وهناك حاسة أخرى تذهلك عندما تتفاجأ باتصال من شخص كنت تفكر فيه أو تنوي الاتصال به، فكم من مرة قلتها صادقاً (لقد كنت على بالي) ! أو قلت : (لقد سبقتني) أو قلت الجملة التعبيرية الشهيرة : (القلوب عند بعضها) سمِّها ما شئت :(تخاطر) أو (تواصل).
-3 وعندما تعترينا يقظة أوهبّة على مستوى الروح : فلا تسل عمّا يحدث ! فقد تستيقظ لدينا فكرة فتنهض بنا وبمن حولنا، أو يستيقظ لدينا الإحساس بالحياة، أو إحساس بالجمال، فنراه في عيون قطة، أو كلمة عذبة، أو عمل خير، أو في رمال ذهبية، فننتفض لنخلع عنا ربقة الإلف والعادة ونغترف من معين الحياة لتعود لنا الحياة !
-4 ومن اليقظة إلى (الإلهام)... فالإلهام نهر يتدفق، لا ندري من أين ينبع، ولا إلى أين يتجه ! ولا وقت تدفقه، فجأة تجد نفسك تحت تأثير حالة من سكب المعاني والأفكار، والصور والخيالات لفترة قصيرة جداً، وقديماً قالوا :إن الفكرة صيد !
-5 (التراجع) أيضاً من حواس الروح، التراجع عما لا يليق بك، تراجع للحفاظ على كينونتك الإنسانية، وعلى هويتك المعنوية... حاسة تنبه مشاعر الألم واللذة، وهي حاسة التوبة ...نتوب في اليوم الواحد مرات ومرات دون أن نشعر.
فاللهم اقبل توبتنا.