لمحة عن الاستراتيجية

سفيان ناصر الله

باحث مغربي في فلسفة العلم والمعرفة وعلم النفس المعرفي، ومهتم بالدراسات الاستراتيجية.

ما هي الاستراتيجية؟

يُعرف الاستراتيجي الفرنسي أندري بوفر الاستراتيجية بكونها "فن الحوار بين إرادتين متضادتين تستخدمان القوة في حل خلافاتهما"[1]، فقيد الاستراتيجية أول ما قيدها بكونها "فناً" ليخرجها من جملة العلوم حسب المفهوم الابيستمولوجي الشائع (الابستمولوجي هو فرع الفلسفة الذي يدرس نظريات المعرفة)، وليجعلها بذلك مهارة تطبيق العلم لا الإدراك الجازم النظري، فتكون بذلك ذات سمة إبداعية، وقد شاع تعريفها باعتبارها فناً منذ 2400 سنة، فصن تزو واضع أول الكتب في هذا الباب معنوناً إياه بـ (فن الحرب) وهو إن كان موضوعه بعد تطور الاستراتيجية لا يدخل الاستراتيجية بشكل مباشر، فهو يدخل في الشق التكتيكي منها أو العملياتي، وهو كتاب يحوي تعليمات عن "شن الحرب، تعليمات تكتيكية، نقاط الضعف والقوة، والطاقة..."، (يقصد تعليمات اقتصاد المحاربين لطاقاتهم في المعارك لا الطاقة بمفهوم اليوم)، وقد تضافرت جهود عباقرة الأمم على تطوير الاستراتيجية من لدن الصينيين مع صن تزو مرورًا بالفرس والرومان على يد جنرالات من أمثال رزكسيس وبيركليس وإيبامينوداس وسكيبيو (هازم هايبيل) وقرطاج مع هانيبال وصولاً لكارل فون كلاوزفيتز الذي تبلورت معه أول نظرية للاستراتيجية في كتابه (عن الحرب) الذي مات ولم يتمم كتابته، وفي هذا الكتاب يرى كلاورفيتز أن أهداف السياسية تهيمن على الاستراتيجية، فالاستراتيجية خادمة للسياسة فهي تسعى لتحقيق الأهداف السياسية (الهدف الوطني، المصالح القومية..). غير أنها هي من تعلم السياسة فن الممكن، وكما يقول ليدل هارت في كتابه الاستراتيجية: "تبدأ الحملة العسكرية عندما يستطيع المرء رؤية ما هو ممكن"، وغرضها ترجمة الغرض السياسي إلى تأثيرات استراتيجية تشكل البيئة على نحوٍ أفضل، شاملة الرؤية، محددة حقل التنفيذ، فالاستراتيجية في حقيقتها تسعى إلى خلق الشـروط التي تجعل للدولة وضعية فضلى على الدول مستقبلاً، فهي لا تعنى بحل الأزمات بل بتجنب وقوعها. ‎تكمن صعوبة الاستراتيجية في كونها لا تتعامل مع وقائع أو معطيات قابلة للإحصاء يمكن إصدار حكم فيها صدقاً أو كذباً، بل غرضها العمل على توقع المستقبل الممكن والعمل على خلق الشروط اللازمة قدر الإمكان لبلوغ وضعية فضلى في المستقبل المنشود، غير أن العمل على خلق هذه الشروط لا يـكون بالتفـكيـر المنطقي الصوري الخطي الذي تحدد مقدماته نتائجه، الذي في مجمله تحصيل حاصل كما بين ذلك الفيلسوف النمساوي فيتجنشتاين، بل تعتمد على ضرب من التفكير الانعكاسي Reflexive Thinking الذي ينطلق من تخيل صورة المستقبل المرغوب فيه عودةً إلى الحاضر. وتعمل على هذا النهج بإعداد سيناريوهات، وتوقع معطيات جديدة في المستقبل القريب، وتحديثها داخل النسق ذهنياً بالعمل على خلق محاكاة ذهنية تتحرك فيها العوامل وتتآثر فيما بينها، وخلق تعالقات، والنظر في التعالقات المستجدة وأثرها على باقي عناصر المنظومة، فهي مثلاً لا تنطلق من الوضع الاقتصادي الاجتماعي القائم بل من المزايا الاقتصادية الاجتماعية بعيدة المدى التي تنجم عن الاستثمارات.

لما كثر الخلط عند الناس بين الاستراتيجية والتخطيط، ارتأينا التمييز بينهما، فمما تتميز به الاستراتيجية عن التخطيط كونها: مرنة، تحوي حيز الإمكانات، لا تنطلق من معطيات كمية بل من معطيات لا كمية Non Data based Methods، ولا تفترض استمرارية الوضع عبر العمل على التنبؤ من معطيات الحاضر، وتكرر الوقائع في الماضي، فهي على النقيض من هذا تماماً مع فارق بسيط هو أنها تدخل ما يسميه الاستراتيجيون (الاستمراريات) Continuities كعامل من جملة عوامل، ومن جملة هذه الاستمراريات (الدين، الأيديولوجيا...) مثلاً مع انتهاء القطبية الثنائية ونشوء عالم أحادي القطب بنظام عالمي جديد بزعامة أمريكا، وضمور الشيوعية باعتبارها إيديولوجية، زعم أغلب المخططين تحت سطـوة الرأسـماليـة والعولمـة أن هذا عصـر انتهاء الأيديولوجيات، فما لبث أن عادت في صورة "الحرب على الإرهاب"، فالتخطيط هو ما يجعل الاستراتيجية قابلة للتنفيذ، فينطلق من واقع كمي أي من النظام أو البيئة القائمة إلى البيئة المنشودة، وغالب معطياته توجد داخل النظام القائم، وما دامت معطيات كمية فهي تسمح للمخططين بالترجيح رياضياً وإجراء اختبارات للخطط والتطبيقات واقعياً، بينما الاستراتيجية تتعامل مع بيئة متقلبة، غامضة، يكتنفها التوجس والشك، ومعقدة، معطياتها توقعات ومفاهيم وتصورات، يتم في ظل توقع المعطيات المستجدة ودمجها في محاكاة ذهنية الكشف عن التعالقات بالاستناد إلى أساس معرفي لا يستهان به عند الاستراتيجي، وملاحظة التعالقات والعناصر الناشئة وتأثير النتيجة في سببها، وتضافر مجموعة من الأسباب على خلق نتيجة ما، وعودة النتيجة الجديدة للتأثير في أسباب أخرى غير التي أنتجتها.

المشكلة في الاستراتيجية كما في التخطيط هي "أن الملامح الثقافية للمخططين تنعكس تلقائياً في تعريفاتهم"[2]، وتكمن المشكلة الثانية في أنه على فرض أن الاستراتيجية جيدة للغاية، بحيث تمكنت من فهم تقريبيٍ على مستوى من الدقة للتعالقات المعقدة للبيئة، فإن تبسيطها للمخططين الذين يفكرون ويعملون وفق الابيستمولوجيا الكلاسيكية، وبغية إدراكها وتنزيلها حيز التنفيذ بهذه الذهنية "النيوتونية" كما يصفها الاستراتيجيون، تشوه الواقع المنشود، وتلغي العوامل المتعددة، وتشترط لهذه العوامل سببية حتمية من حيث تعالقاتها وتأثيراتها الحاصلة في البيئة المعقدة، لا سببية لا حتمية، وتهمل العوامل غير المادية وآثارها، فتتشوه الاستراتيجية كلما نزلت من المستوى الاستراتيجي إلى التخطيطي، وتزيد تشوهاً عند نزولها للمستوى التكتيكي العملياتي، ناهيك عن كون الأهداف التي يحددها الساسة للاستراتيجية أغلبها ما يكون فضفاض ومثالي مما يجعل عمل الاستراتيجي عصياً جداً، يسبح في محيط من التعقيدات والاحتمالات، ومفتقدًا لأي أساس أو مرجع، فيتحتم عليه تحديد إطار مرجعي يمكنه من وضع استراتيجية تبلغه الأهداف السياسية. ويزداد الأمر تعقيداً إذا علمنا أن الأطر المرجعية تعمل فيهم عملها في عامة الناس، فهي وإن كانت في جوهرها معضدة لتوليد حقل من الاحتمالات، فإنها تمنعه من رؤية حيز من الممكنات في جملـة عمـله بدءًا من: التعريفات التـي يضعها، المفاهيـم التي يستعملها.. وهلم جرا.

فالأطر المرجعية تضع جملة من الممكنات والفوارق في نقطة عمياء، تقع في مجال النظر، لكنـه لا يـراها بسبب الخلفية المرجعية، وهذا مـا يجعلها حقلاً آخر للاستراتيجي يختلف في المرجعية عن سابقه، ولهذا فلصعوبة الاستراتيجية في العصـر الحديـث، تخـلو عن فكرة الشخص "الاستراتيجي العبـقري" وجعلوها "مجامـع استراتيـجيـة" على هـيئـة المجامـع الفقهيـة، غير أن الفارق الدقيق بين عمل الأطر المرجعية في الاستراتيجي وعملها في عامة الناس هو وعي الاستراتيجي بها، لذلك فهو يـفترض إمكان حـدوث تغييـرات لأسبـاب خارج نطاق رؤيـتـهـا، ويسـتـعـد لاسـتـقـبـال التحديث، على غرار التغييرات المفاجئـة التي قد تحصل نتيجـة عوامل في نطـاق الرؤية لسوء تقديـر قوة بعـض العوامل التأثيريَة أو إهمـال أثرها حال اجتماعهـا وتداخل تأثيرات فيما بينها.

ولقد قيد أندري بوفر الاستراتيجية في تعريفه المذكور آنفا بقيد ثانٍ وهو "بين إرادتين متضادتين" فهل يمكن خلق استراتيجية دون وجود إرادة مضادة؟ والجواب على هذا كالتالي:

يرجع الأمر إلى وعي الاستراتيجيين بقصور الدولة الذاتي عن تعريف ذاتها، فهي محتاجة لمعيار خارجي تقيس على أساسه تقدمها، ويكون وجود هذا المعيار الخارجي دافعاً للتقدم، لذلك تسعى الدول دوماً لصنع أعداء ولا تنتظر أن تأتيها العداوة، وهذا لكي يكون لها الخيار في اختيار العدو الذي يتناسب وأهدافها وقدرتها ومواردها البشرية والمالية.. فهذا الاختيار مدروس لكي لا تنشأ عداوة بالصدفة مع عدو يعود على استراتيجية الدولة وأهدافها بعكس مرادها، فهي تختار العدو بعناية، فإن لم تحدد عدوها، ستحددها دولة أخرى كعدو، فيكون الأمر بيد وإرادة الدولة الأخرى، ولا يقتصر صنع العدو على قصور الدولة فقط، بل يتعداه إلى أدوار استراتيجية، فهو يعين على تكتل النسيج الداخلي للدول وتلاحمه تحت راية بحيث يسهم هذا التكتل على تماسك الهوية للأفراد والمجتمع داخل الدولة، مما يكسبها مناعة داخلية، وليس شرطاً أن يكون العدو دولةً، فقد يكون مفهوماً أي عدواً تصورياً كما أوضح ذلك الاستراتيـجي الفرنسـي المتقاعد بيير كونيسا في كتابه (صنع العدو)، تزداد أهمية الإرادة المضادة في عالم ما بعد حداثي، لا توجد فيه سرديات كبرى مؤطرة للنسيج الداخلي، يجد فيها الفرد والمجتمع معنى حياته، فترتفع بذلك إمكانية نزوع الأفراد والمجتمعات إلى معايير خارجية تجد فيها معاني وجودها، وتقل بذلك القدرة على التنبؤ.

فالتأطير الاختياري يجعل القدرة على التنبؤ صعبة جداً إن لم تكن مستحيلة أحياناً، لهذا فالإرادة المضادة جوهرية للدولة وللعمل الاستراتيجي لقصور الدولة بكل مكوناتها مجتمعاً وأفرادًا ومؤسسات عن تعريف ذاتها، ولا يقف دور صنع العدو على ضمان تلاحم النسيج الداخلي للدولة، بل يتعداه لخلق أهداف خارجية ترتقي الدولة من خلالها في النظام الدولي، ويمثل العدو دافعاً لها نحو التقدم لأهدافها، فالدول التي تبقى من غير أعداء نادراً ما تتقدم على المستويين الداخلي والخارجي لانعدام الدافع، فالدافع الخارجي شبيه بما يعطيه المجتمع للفرد لقصوره عن الانطلاق من دوافع داخلية صرفة، فوجود العدو مسألة اضطرارية للدول، يبقى الخيار للدول في اختيار أي الأعداء أنسب لأهدافها السياسية، ولا تصنع الدول الأعداء إلا لتبقى مختارة، إذا لم تختر سيختارها غيرها عدوة فتكون مضطرة لكونها كانت خيار دولةٍ لا تتناسب طبيعتها مع أهدافها السياسية، فصنع العدو يساعد على خلق أهداف كبرى للدولة، متوسطة للمجتمع، وصغرى للأفراد، مما يعين على تنظيم الحياة السياسية داخل الدولة، بل حتى التعليم أحياناً.

مثال مقتضب: يقول بيير كونيسا في كتابه (صنع العدو): "تسعى الاستراتيجية العسكرية الأمريكية إلى تدمير بنى العدو ودعائمه بأي طريقة كانت، لإرغامه على السلم، كما تسعى القوى الأوروبية إلى حرمان الخصم من قاعدته الاجتماعية عبر استراتيجيات تدمج بين الأفعال المدنية والعسكرية". 

على ما هو معهود من تاريخ أمريكا مع ماركس الذي صورته كشيطان على أساس معاداته للرأسمالية، لكن ماركس يبقي حاضراً في الشق الاستراتيجي من السياسة الأمريكية؛ فالاستراتيجية العسكرية الأمريكية يقوم تطبيقها على أساس الدياليكتيك الماركسي حيث الواقع المادي هو أساس تغيير الفكر وتوجيه الوعي، فإن تدمير بنى العدو ودعائمه هو صناعة واقع جديد يشترك فيه الكل عوض واقع جزئي لكل شريحة مجتمعية، وحتى يكون التغيير شاملاً، ويقبل المجموع بما تقدمه الاستراتيجية الأمريكية كقيمة مضافة أو رسالة (الديمقراطية)، ويكره بالمقابل ما استدعى أمريكا لبلادها، والذي استندت إليه أمريكا كمسوغات لدخولها الدول، كنوع من صناعة العدو لضمان اجتماع النسيج الداخلي للدولة، وهذا التدمير الذي هو صناعة واقع جديد يصل الحضيض حتى يكون كل وعد من السياسة الأمريكية أملاً موجهاً للخروج من ذاك الحضيض، وبهذا ترسم أمريكا صورة الواقع والنمط الجديد للحياة الذي تنشده كرؤية استراتيجية، وهو يشبه التطبيق التعذيبي الذي يروم إخضاعك لدرجة لا تطاق من الألم حتى يكون الألم الأخف "لذة تنشد".

لماذا الاستراتيجية عسيرة إلى هذه الدرجة؟

يرجع عسر الاستراتيجية حقيقة لطبيعة البيئة التي تتعامل معها، فالبيئة الاستراتيجية بطبيعتها متقلبة، غامضة ومعقدة ويسودها التوجس والشك، و"التأثيرات في البيئة الاستراتيجية تراكمية، لكن يمكن معالجتها أو إبطال مفعولها من خلال التفاعلات داخل المنظومة"، وهذه البيئة تقوم بوظيفة الشبكة المعقدة التي تنتظم ذاتياً، وتسعى إلى صيانة توازنها النسبي الحالي أو إيجاد توازن جديد مقبول، "فهي دينامية الطبع تتفاعل مع المدخلات، لكن ليس بالضرورة وفق علاقة سبب/نتيجة"[3]، فالاستراتيجي يحتاج لفهم البيئة وبناء استراتيجية متسقة معها، بحيث لا يغفل عن طبيعتها ولا يستسلم للأطراف الأخرى أو يترك الأمر للصدف وعدم الاستقرار فيضيع في فوضى البيئة الاستراتيجية، وتعقيد البيئة يرجع لتألفها من أجزاء عديدة متداخلة فيما بينها بطريقة يصعب معها فهم الأجزاء منفردة عن سياقها، فالاجتزاء مانع من فهم تأثيرات السياق في الأجزاء، ويصعب فهمها مجتمعة لأن التَعقيد المطرد المتنامي يصعب احتواؤه، خصوصاً وهو يجمع بين عوامل تأثيرها خطي (سبب/نتيجة) وغير خطي، فهناك دوماً نقص معرفي، والدوافع في هذه البيئة ضبابية غالباً، ولصعوبة استيعاب طبيعة البيئة الاستراتيجية، يقاربها الاستراتيجيون بنظريتين (نظرية الفوضى Chaos theory - ونظرية التعقيد Complexity theory) إذ تصوران بدقة جوهر سلوك البيئة الاستراتيجية المعروف بسماته الأربع: التَقلب، التوجس، التعقيد والغموض.

عرفت نظرية الفوضى على يد خبير الأرصاد الجوية إدوارد لورنز عندما كان يبحث عن طريقة للتوصل أكثر دقة عن أحوال الطقس، فاكتشف ظاهرة (تأثير الفراشة Butterfly effect) بملاحظته أن التغييرات الطفيفة في الشروط الأولية للحسابات تترك آثارًا كبرى على النتائج عند التراكم والاستمرار، فخلص إلى استنتاج أن "مستقبل السلوك المعقد والمنظومات الدينامية شديد الحساسية والتأثر بأي تغييرات طفيفة في الشـروط الأولية"[4]. ولهذا عرف الاستراتيجي الأمريكي وأحد مطوري الاستراتيجية النووية الحديثة برنارد برودي الاستراتيجية بأنها "الميدان حيث ترى الحقيقة في السعي إلى حلول حيوية"[5].

فقبل نظرية الفوضى هيمن على العالم رأيان، الحتمية المحضة، والعشوائية الصرفـة، غير أن نظرية الفوضى تجمع بينهما، فهي تصف سلوكاً غير دوري ولا مستقر ضمن منظومات دينامية وقطعية وغير خطية، فالمنظومة الدينامية منظومة تتفاعل وتتغير مع مرور الزمن، وسلوك المنظومات الفوضوية غير دوري، مما يعني انعدام متغيرات تكرر بقيم معينة دورياً تصف حال المنظومة، فكل متغير يغير قيمه مع الزمن، وتكمن أهمية نظرية الفوضى في توضيحها أن كثيراً من الأمور التي كان يظن أنها عشوائية لعدم وجود نمط منتظم ظاهر، ليست عشوائية في الواقع، أي أن هناك علاقات سبب/نتيجة غير مباشرة، و"يمثل التاريخ الإنساني في المنظومات الفوضوية سلوكاً غير دوري، إذ نلاحظ أن هناك نماذج كبيرة واضحة للعيان لنهوض حضارات وسقوطها، ليس فيها حادثة واحدة تكررت بالضبط في يوم من الأيام"[6].

أما نظرية التعقيد فتعود لعالم الاجتماع وفقيه العلم الفرنسـي إدغار موران، وترى هذه النظرية أن المنظومة المعقدة تنشأ عند تداخل وتفاعل مجموعة من العناصر فيما بينها، بحيث يؤدي التغيير في بعض العناصر أو علاقاتها إلى تغييرات في أجزاء أخرى من المنظومة، وتتضمن المنظومة خصائص وأنماط سلوك مختلفة عن التي في المجموع الكلي للأجزاء ذاتها، وتحوي هذه المنظومة أنساق مدركة (معارف) وأنساق مدركة (الذات العارفة) ولا تسعى إلى الفصل بين الذات والموضوعات، فالمفاهيم في نظرها لا تعود للمواضيع المدركة فقط، بل للذات المدركة أيضاً، فحتى أشد المعارف فيزيائيةً تخضع لمحددات انتربولوجية اجتماعية، والمنظومة ذاتية الانتظام في هياكل تزداد تعقيدًا وتطورًا ودقةً مع الزمن، ومن سماتها أنها ليست قطعية بالكلية ولا عشوائية مما يجعلها تخضع لنموذج نظرية الفوضى، وقابليتها للتنبؤ بدقة، فنظرية التعقيد تخلت عن الأحكام القطعية في سبيل فهم أفضل للمنظومات المعقدة، التي يكون مجموع تفاعلاتها ضمن المنظومة الكلية أكبر من مجموع تفاعلات أجزائها.

وعند تدخل "عامل مُحرض أو جاذب" –حادثة صغيرة مشابهة للتغييرات الرياضية التي أجراها لورنز- تنتج حالة تدعى (نقطة التشعبات)، وهي النقطة التي يحدث فيها تغيير كبير بحيث تنشأ منظومات جديدة مميزة ومختلفة عن أصلها، مع احتفاظها باستمرارية بعض الجوانب، هاتين النظريتين تدركان أن العالم مكون من علاقات خطية وعلاقات دينامية لا خطية، غير أن نظرية التعقيد لا تسعى للتنبؤ بل للفهم، إذ تقبل نظرة معقدة، تقبل التناقضات، الشذوذات، والعمليات الجدلية أو كما يسميها موران: Boucle causale.

ما دامت البيئة بهذا التعقيد والغموض فإن النظر فيها بالمنطق الأرسطي ثنائي القيم (صدق، كذب) يكون تضحية بالدقة على حساب اليقين المتحصل، لهذا يصف الاستراتيجيون هذا التعقيد استنادًا إلى المنطق الذي طوره المهندس لطفي زاده، والذي سماه بالمنطق الضبابي Fuzzy Logic، حيث يرى هذا المنطق الحديث أن كل مسألة هي درجة معينة من طيف قيم متعددة بدلاً من الطرفين القاطعين (صدق، كذب)، ويذهب مؤيدو هذا المنطق الضبابي أن الثقافة الغربية تخلت عن الدقة مقابل الحصول على جواب بأبيض أو أسود، فالمنطق الأرسطي يرى أن المقولة لا بد أن تكون إما صادقة أو كاذبة، بيد أن المنطق الضبابي يرى أن المقولة صادقة أو كاذبة بنسبة ما، فإذا سئل المرء عن العدد (0.7) مثلاً وطلب منه تحديد إذا كان (1) أو (0) ؟؟ ففي المنطق الأرسطي لزاماً أن يقرر أحد القيمتين، أما واقعًا فالعدد (0.7) أقرب للواحد من (0) فهو بين الاثنين. 

وتجدر الإشارة في النهاية إلى أبعاد الاستراتيجية السبعة عشـر كما حددها الاستراتيجي كولن غراي وهي: "الأفراد، المجتمع، الثقافة، السياسة، الأخلاق، الاقتصاد، الإمدادات اللوجستية، المؤسسة، الإدارة، المعلومات والاستخبارات، النظرية الاستراتيجية والعقيدة، التقانة، العمليات، القيادة، الجغرافيا، التوجس، الخصوم، والزمن، وهذه الأبعاد يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار بكليتها، أي احتساب كل بعد منها منفردًا دون إغفال أي منها، مع احتساب تأثير البعد الواحد في سياق علاقاتها بالأبعاد الأخرى"[7].

وأخيرًا:

"فالاستراتيجية تمقت الفراغ، إذا كانت الرؤية الاستراتيجية غائبة، فإن التأثير الاستراتيجي سيتولد بفعل التَّراكمات العشوائية للنتائج التكتيكية والعملية"[8].

المراجع:

 [1] André Beaufre: An introduction to strategy (london, Faber & Faber 1965) p:22.

 [2] ي. درور : استراتيجية كبرى لإسرائيل (القدس اكدمون، الجامعة العبرية 1989).

 [3] الاستراتيجية ومحترفو الأمن القومي ـ هاري آر يارغر. ص:55.

 [4] Manus J. Donahue III : An Introduction to mathematical chaos and fractal geometry.

 [5] Bernard Brodie: War and politics (New York, Macmillan) p:453.

 [6] John Lewis Gaddis :The landscape of history: How Historian map the past (Oxford U. press 2002) p:71 – 90.

 [7] Colin.S. Gray: Modern strategy.p:23 – 43.

 [8] Colin.S. Gray: Modern strategy.p:50.